بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد...
إن التاريخ هو ذاكرة الأمم، لا تستطيع أمة أن تعيش بلا ذاكرة، ودراسة التاريخ واستخراج الدروس والعبر منه هو دأب الأمم القوية.
فالتاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم، في صفحاته دروس وعبر للمتأملين، لأنه نتاج عقول أجيال كاملة، والأمة التي تهمل قراءة تاريخها لن تحسن قيادة حاضرها ولا صياغة مستقبلها.
وخير شاهد على ذلك أن الأمم التي ليس لها تاريخ تحاول أن تؤلف لنفسها تاريخًا، ولو مختلقًا، حتى يكون لها ذكر بين الأمم ـ كما هو حال الدولتين اللقيطتين أمريكا وإسرائيل.
* فواعجبًا لأمة لها تاريخ عريق مشرف تخاصمه ولا تستفيد منه، وتعتبره ماضيًا زال وتراثًا باليًا.
يقول أرنولد توينبي في محاضرة ألقاها في القاهرة في الستينيات من القرن الميلادي المنصرم:
\' إن الذين يقرءون التاريخ ولا يتعلمون منه أناس فقدوا الإحساس بالحياة، وإنهم اختاروا الموت هربًا من محاسبة النفس أو صحوة الضمير والحس\'... !!
يقول شوقي:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
فهذه دعوة للأمة المسلمة ذات التاريخ العريق ـ أفرادًا وجماعات ـ لقراءة تاريخها قراءة واعية تستخرج منه الدروس والعبر، وتستخرج منه منهاجًا للحركة والفهم، يفيدها في مسيرة نهضتها واستشراف مستقبلها، حتى يعود للأمة مجدها وتستعيد مكانتها وعزتها أمام الأمم.
أي أن القراءة المطلوبة هي قراءة متدبرة، تقف أمام أحداث التاريخ الإسلامي متفحصة مدققة، ليست سردًا تاريخيًا للأحداث بقدر ما هي تنقيب بين أسطره على مدلولات هذه الأحداث والوقائع، وعلاقتها بواقعنا المعاصر.
لذا نستطيع في هذه العجالة أن نقف أمام بعض الدروس لعلها تكون دافعًا للأمة لكي تسعى لضبط مسيرتها بالسنن الربانية التي وعاها أسلافنا فضبطت مسيرتهم وحفظت جهادهم.
** لكن قبل ذلك نوضح أمرين:
أولهما: التاريخ ليس سردًا للأحداث ولا تسجيلاً للوقائع والأقاصيص، ولكنه تفسير لكل هذه الأحداث والوقائع، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منهم وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان\'.
ويعرفه ابن خلدون التاريخ فيقول:
\'... فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليها الركائب والرحال، وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، وفى باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق\'.
فالتاريخ ليس سردًا مجردًا للأحداث، لكنه في حقيقته وقوف أمام تلك الأحداث لتحليلها وتفسيرها والربط بينها واستخراج الدروس التي يمكن الاستفادة منها في حاضرنا ومستقبلنا.
ثانيهما: أن الإسلام اهتم بدراسة التاريخ عن طريق:
1- وردت في القرآن إشارات كثيرة إلى أهميه دراسة سير الأولين والتأمل فيها وأخذ العبر منها: قال - تعالى -: {قَد خَلَت مِن قَبلِكُم سُنَن فَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذَّبِينَ} [آل عمران/133].
وقوله: {لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأولِي الأَلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفتَرَى وَلَـكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلَّ شَيءٍ, وَهُدًى وَرَحمَةً لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ} يوسف/111. وقوله - تعالى -: {... فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ..} [الأعراف/176].
2- وفى السُنة: حيث \' أعلم الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ المسلمين بحوادث ستقع في المستقبل حتى يكونوا على وعي بالحاضر والمستقبل\' مثل فتح القسطنطينية ورومية ومثل المعارك التي ستقع مع اليهود والنصارى وأحداث الساعة... وغيرها.
3- كذلك اهتم القرآن بقصص الأنبياء للتسلية والتسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وكذلك لاستلهام الخط الواصل فى الصراع بين الحق والباطل، كما ظهر ذلك من سرد قصص نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد... وغيرهم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
4- كذلك اهتم علماء السلف بالتصنيف في التاريخ لخدمة هذه الأمة أمثال الإمام الطبري وابن كثير والذهبي وغيرهم.
** ثم نأتي إلى أهم الدروس المستفادة من التاريخ:
أولها: ـ الاتعاظ والاعتبار بالقرون الخوالي:.. {لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُولِي الأَلبَابِ}[يوسف: من الآية111]... \'.
الغرض الأساسي من دراسة سير الغابرين هو أخذ العبرة والعظة لما حدث معهم، فقد حدثنا التاريخ كثيرًا عن أمم غابرة وما حدث لها من ظهور ثم سقوط وهلاك، فكان لزامًا علينا دراسة سيرهم لنقف على أسباب ظهورهم وسقوطهم ونستخرج النتائج ونربط بينها.
\'إن السر المختوم في القرآن هو أن نعتبر بالماضي، وأن نتعظ بالقرون الخوالي وأن نتدبر حركة التاريخ ونشوء الحضارات ونتأمل الأسباب، ونربط بينها وبين النتائج\'.
ـ كذلك يتحتم علينا دراسة تاريخ الأمة المسلمة منذ نشأتها وظهورها في الأرض وانتشارها وسيطرتها على أكثر من نصف الكرة الأرضية، ثم انكماشها رويدًا رويدًا، وما استتبعه ذلك من سقوط الخلافة وانتهائها، وما آل إليه الأمر في النهاية، من تنحية شـرع الله عن حكم الأمة واسـتيراد القوانين الوضعية بدلاً عنه، ثم تمزيق جسد الأمة، والتمكين لأعداء الإسلام وعملائه في ديار المسلمين.
أي يجب علينا دراسة خط انحراف الأمة منذ ظهورها وحتى سقوطها، وذلك لأخذ العبرة والعظة، ودراسة عوامل الظهور ومقوماته، ثم أسباب السقوط ونتائجه، واستخراج الدروس والعبر من كل ذلك.
ثانيها: استخراج الدروس التربوية من التاريخ:
ارتبط هذا الدين منذ ظهوره واستخلافه في الأرض بقيم أخلاقية وتربوية، استطاعت أن تصوغ أخلاق وسلوكيات هذه الأمة، وأن تغير من واقع حياتها، لنتأمل حال العرب قبل الإسلام وبعده.
استطاع الإسلام أن يصوغ ويغير من أخلاقهم وقيمهم وسلوكياتهم وتصوراتهم، فتغيروا من حال إلى أحسن حال.
لذا الاستفادة من التاريخ في استخراج هذه الدروس التربوية، ومعرفة كيف استطاع الإسلام أن يغير من واقع هؤلاء القوم، حتى يكون ذلك منهاجًا لنا في تغيير القيم والتصورات الدخيلة على واقع وحال الأمة الإسلامية في وقتنا الحالي.
كذلك لنستفيد من هذه الدروس التربوية في إيجاد منهج تربوي أصيل يستطيع أن يخرج لنا أجيالاً راشدة وصياغتها الصياغة الإسلامية المطلوبة.
يقول الأستاذ/ محمد قطب: \'... كل أمة من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة، فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها، فإن من بديهيات التوجيه التربوي لدراسة التاريخ الإسلامي أن يخرج أجيالاً مسلمة تعرف حقيقة دينها وتستمسك به وتعمل على إحيائه في نفوسها وفي واقع حياتها\'.
ثالثها: تتبع السنن والقوانين الربانية التي تحكم هذا الكون:
أوجد المولى - عز وجل - سننًا وقوانين ربانية تحكم هذا الكون، وتحرك آلياته، حتى لا تترك مجالاً للصدفة أو الحظ، هذه السنن تجيب لنا عما يحدث في الكون وفي الحياة من أحداث.
يقول الأستاذ/ محمد قطب: \'... الدرس التربوي الأكبر المستفاد من تتبع أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها ورفعتها وانتكاسها، هو تتبع السنن الربانية من جهة، وأنها لا تحابي أحدًا، ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد.
وإبراز الحقيقة الرئيسة في حياة هذه الأمة من جهة أخرى أنها لا تمكن في الأرض إلا وهي مستمسكة بدينها، عاملة بمقتضيات التكليف الرباني لها، وأنها كلما حادت عن الطريق أصابتها العقوبة الربانية فزال عنها التمكين، وأصابتها النكبات.
وأنها من جهة ثالثة لا تبرأ من نكبتها إلا بالعودة الصادقة إلى الله - عز وجل -، وأنها حين تعود لا تكون ممكنة في داخل حدودها فحسب بل تكون في مقام التوجيه والشهادة على البشرية... \'.
ويقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني: \'... في التاريخ قوانين تحكم الأحداث والظواهر، وتوجهها الوجهة التي يقتضيها منطق القانون، والخروج على هذه القوانين أو الانسجام معها هو كالخروج على قوانين النفس والغذاء وقوانين ضغط الغازات والانسجام معها، والذين يتقنون فقه هذه القوانين وتطبيقها هم الذين يستمرون في الحياة ويتفوقون في ميادينها.
وهذا يعني أن الأمة التي يتولى زمام أمورها \'فقهاء\' يفقهون قوانين بناء المجتمعات وانهيارها، ويحسنون تطبيق هذه القوانين، فإنهم يقودون أممهم إلى التقدم والنصر لا محالة.
وأما الأمة التي يتولى زمام أمورها \'خطباء\' يحسنون التلاعب بالمشاعر والعواطف، فإنها تظل تتلهى بالأماني التي يحركها هؤلاء الخطباء، حتى إذا جابهت التحديات لم \'يفقهوا\' ما يصنعون، وآل أمرهم إلى الفشل، وأحلوا قومهم دار البوار\'.
لذا فالمطلوب منا حيال هذه السنن والقوانين هو تتبعها وإدراكها، والاستفادة منها في فهم الواقع، وتسخيرها من أجل حدوث النهضة المطلوبة للأمة.
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: \'من الأولويات المطلوبة في الفهم والتفكير الإسلامي اليوم إدراك أمر السنن والأسباب والأقدار، وامتلاك القدرة على التعامل معها وتسخيرها، ودخول حلبة الصراع الحضاري بميادينه المتعددة بأدواته ووسائله النوعية المطلوبة، وذلك أن دخول أي معركة بدون أسلحتها الفاعلة سوف يؤدى إلى الخسارة الفادحة\'.
رابعها: معرفة مخططات أعداء الإسلام في محاربة هذه الأمة:
الصراع بين الحق والباطل من سنن الله في هذا الكون، وهو مستمر إلى قيام الساعة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا}. يتجلى هذا في وقوف أعداء الإسلام يهودًا ونصارى ومشركين لهذه الأمة وإلى يومنا هذا بالمرصاد.
حتى قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قام به بحيرا الراهب وتحذيره لأبي طالب من اليهود، خوفًا علي محمد - صلى الله عليه وسلم -وهو مازال طفلاً. ثم تتابعت فصول المؤامرات وأحداثها مع البعثة وإلى الآن، وما أمر الحروب الصليبية عنا ببعيد، وما حدث لمسلمي الأندلس كذلك، وما تآمرهم على الخلافة العثمانية وإسقاطها عنا ببعيد.
وفى هذه الأيام ما حدث في البوسنة وكوسوفا على يد الصرب الصليبيين، وما يحدث للفلسطينيين على أيدي اليهود وبمساعدة الأمريكان، الذين يعيثون في الأرض فسادًا في أفغانستان والعراق. وما يعيشه الشيشانيون على يد الروس، وما يحدث لمسلمي تركستان على يد الصين، ومسلمي الهند على يد الهندوس، وفى الفلبين، كذلك ما حدث على يد الباطنيين المجوس في القديم والحديث، وما يحدث في كل بلاد المسلمين، هو امتداد لهذا العداء التاريخي الحاقد، وهدفه هو القضاء على الإسلام والمسلمين.
فدراسة التاريخ تحذرنا من مخططاتهم التي تنخر في جسد الأمة، فيجب علينا دراسة هذه المؤمرات وتتبع تاريخها حتى تكون مرشدًا لنا في تعاملنا معهم، وتعلمنا الحذر من دسائسهم وحقدهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد