بسم الله الرحمن الرحيم
لعل من الأسباب الرئيسة في تفرق وتشاحن بعض الدعاة هو ابتعادهم عن المنهج الوسط، فالبعض متساهل إلى درجة التفريط، والبعض متشدد إلى درجة الإفراط.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبعه تهجم وتجريح واتهام بين هذه الفئات الثلاث (متساهل، وسط، متشدد). فكل يظن أن الحق معه، وأن الخطأ والباطل مع غيره (إلا من - رحمه الله - من أهل العلم والفقه والاعتدال).
ولا شك أن هذه المسألة تحتاج إلى وقفة متأنية، خاصة أن الأدلة في ضرورة الاعتدال والتوسط وافرة وكثيرة، ولكن المشكلة تكمن في تحديد ذلك الوسط، فالمتساهل يصف نفسه بالاعتدال والتوسط، وكذلك يفعل المعتدل والمتشدد، فكل يصف نفسه بأنه هو الوسط هو المتطرف.
ليت الدعاة إلى الله حرصوا على ضرورة تتبع المنهج الوسط، وذلك بمزيد من العلم والقفه في دين الله وما كان عليه سلف هذه الأمة، فأمة السلف هي أمة الوسط والاعتدال.
والوسط لا يعني التفريط في شيء من دين الله، وإنما هو الالتزام التام بدين الله المبني على الفقه والوعي ومراعاة الواقع.
إن كثيراً من الشبهات والاتهامات (لا سيما بين الدعاة بعضهم بعضاً) سوف تختفي إذا ما حرص المسلم على الاعتدال والتوسط واتباع منهج السلف في ذلك، في حين أن التساهل أو التشدد داءان سبباً كثيراً من التوتر واشتعال الخلاف والقذف بالتهم وإثارة الشبهات في أوساط الدعاة.
وقد أورد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) أمثلة عديدة على ضرورة الاعتدال والتوسط والبعد عن التنطع والتشدد أنقل بعضها إتماماً للفائدة، فكان مما قال:
مما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الدعين إلى الإسلام، أو على الأقل - تقريب الشقة وإزالة الجفوة بينهم: اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط، فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله كما أثر عن السلف - بين الغالي فيه والجافي عنه.
ومن كلمات الإمام علي - رضي الله عنه -: عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي.
فالوسط هو مركز الدائرة التي ترجع إليه الأطراف المتباعدة عن يمين وشمال، وهو يمثل الصراط المستقيم، والذي علّمنا الله - تعالى -أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها: اهدنا الصراط المستقيم. (الفاتحة: الآية 6) وهو الذي جاء فيه قوله - تعالى -: وهذا صراطُ ربك مستقيماً. (الأنعام: الآية 126) وقوله - تعالى -: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوا ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون. (الأنعام: الآية 153)
ويلزم في اتباع المنهج الوسط أن يتجنب المسلم التنطع في الدين وهو ما أنذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الهلاك، فيما رواه عنه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: هلك المتنطعون قالها ثلاثاً. (رواه مسلم) سواء كان هذا القول إخباراً عن هلاكهم أو دعاء عليهم.
والمتنطعون - كما قال الإمام النووي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. (شرح النووي على مسلم، ج5، ص 225)
وقال غيره: المراد بالمتنطعين: الغالون في عباداتهم، بحيث يخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وقيل: المتعنتون في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.
ومنه: الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا إجماع، وهي نادرة الوقوع، فيصرف فيها زمناً كان صرفه في غيرها أولى، سيما إن لزم منه إغفاله التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد منه: البحث عن أمور معينة، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنه ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف.
وقال بعضهم: مثال التنطع إكثار السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتي بالإذن. (1)
وكل هذا من الحرج الذي نفاه الله عن هذا الدين القائم على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير.
وروى ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين. (2)
ولا ريب أن التنطع والغلو في الدين يدفع إلى التشديد في الأمور الصغيرة، والضيق بكل مخالف فيها، على حين تكون السماحة واليسر من أسباب التقارب والوفاق.
وهذه الروح هي التي جعلت الصحابة ومن تبعهم بإحسان يتسامحون في الفروع الجزئية، ولا تضيق صدورهم بالخلاف فيها، بل كانوا ينكرون على من يجعل البحث عن هذه الأمور شغله الشاغل، ولا يرحبون بهذا النوع من السؤال الذي لا يأتي من ورائه إلا التشديد.
والقرآن نفسه نبه على هذا الأصل حين قال: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم. (المائدة: الآية 101)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من كثرة الأسئلة التي تنتهي بالتشديد على المسلمين، وذلك حين قال: إن أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته. (رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير، ويسألونك عن المحيض قال: ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم.
وقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.
وقال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون(3) عن أشياء ما كنا ننقر عنها، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.
وعن عمر بن إسحاق قال: لمَن أدركتُ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم.
وعن عبادة بن يسر الكندي، وقد سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم(4) (انتهى كلام الدكتور القرضاوي)(5).
هذه بعض الأمثلة على ضرورة فهم الدين على قاعدة التوسط والاعتدال والابتعاد عن الغلو التنطع، فهل يا ترى فقه الدعاة هذه القاعدة وعملوا بمقتضاها؟ وهل يا ترى رحمنا أنفسنا وحفظنا دعوة ربنا باتباعنا هذا المنهج الرباني الكريم ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فيض القدير: ج6، ص 355.
(2) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3) تنقرون: من التنقير وهو التفتيش والاستقصاء في البحث المبالغ فيه.
(4) أخرج هذه الآثار الدارمي: حجة الله البالغة، ج 1، ص 140-141.
(5) يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة، ص 95 - 104.
المراجع د. علي الحمادي، خفافيش أعماها النهار، ص 62-68
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد