الغيرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الموصوف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، وأشهد أن لا إله إلا الله له ما وصف به نفسه العلية من غير كيف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وسيد أصفيائه وأوليائه وإمام أنبيائه، وبعد :

 

أخرج البخاري في صحيحه كتاب النكاح باب الغيرة عن سعد بن عُبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : \"أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني\". وأخرج عن ابن مسعود قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وما أحد أحب إليه المدح من الله\". وعنده عن عائشة - رضي الله عنها - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد لو تعلمون، ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا\"(1). ففي الرواية الأولى ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - رتبتين من مراتب الغيرة أدناهما رتبة سعد بن عبادة ولنتدبر قوله حيث قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مصفِح بكسر الفاء على أنها صفة للضارب وحالاً منه وبفتح الفاء على أنها صفة للسيف، أي يضربه بحد السيف وليس بعرض السيف، أي يضربه ضربًا يقتله، حتى نقل ابن حجر في الفتح عند شرحه للحديث قال : تمسك بهذا التقرير- أي من الرسول لسعد رضي الله عنه- من أجاز فعل ما قال سعد وقال : إن وقع ذلك ذهب دمُ المقتول هدرًا نقلاً عن ابن المواز من المالكية(2).

هذه غيرة سيد الأوس - رضي الله عنه - والتي كانت علامة وشارة مميزة له حتى قال أصحابه من الأنصار فيما ذكره ابن حجر اعتذارًا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا عذراء ولا طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.

هذه غيرة سعد - رضي الله عنه -، وهي الأدنى والأقل من غيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فوق كل ذلك غيرة من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، حيث أثبت الحديث وغيره من أحاديث الباب هذه الصفة لله - تعالى -، والواجب إثباتها على الحقيقة اللائقة به - سبحانه - كسائر صفاته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل، كما قال - تعالى -: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولثبوت هذه الصفة لله - تعالى -تجلت كما وردت رواية ابن مسعود السابقة : \"ما من أحد أغير من الله - تعالى -من أجل ذلك حرم الفواحش\". فقد تجلت في تحريم الفواحش وكما في رواية أبي هريرة عند البخاري قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله\"، وأما الغيرة في حق الآدمي فهي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. قاله عياض - رحمه الله -(3).

وليس معنى هذا أن القلب لا يتغير إلا عند رؤية الفاحشة فقط إنما نقلت السنة الشريفة ما هو أقل من ذلك بكثير منها ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت : كنت أنقل النوى من أرض الزبير على رأسي فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال : إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أني قد أستحييت فمضى فجئت الزبير فقلت : لقيني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال : والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه، قالت : حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني(4).

فهذه هي الحرة العفيفة بنت صديق الأمة تحترم غيرة زوجها فلا تركب خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت لا تحل له - صلى الله عليه وسلم -، في هذه الحالة لوجود السيدة عائشة - رضي الله عنها - تحته - صلى الله عليه وسلم -، والحديث يثبت وجود الغيرة عند الزبير - رضي الله عنه - لأمرين أولهما : الركوب خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الأشد من ذلك والأكبر هو ابتذال أهله فيما يشق من الخدمة وأنفة نفسه من ذلك لا سيما إذا كانت ذات حسب فقال : حملك النوى أشد من ركوبك معه - صلى الله عليه وسلم -، أين هذا السمو والغيرة من الرجال والنساء اليوم، تركت المرأة مع سائق أو مالك السيارة دون محرم ودون جمع من الناس، دون غيرة من رجالها أو زوجها، وكذلك تكون مبتذلة في الأسواق والطرقات دون غيرة من زوجها أو أولادها، فكان حمل أسماء - رضي الله عنها - النوى، والخدمة الشاقة لفرس الزبير - رضي الله عنه - أمر عسير على نفسه ولكن السبب في هذا الصبر من جانب الزبير على ذلك هو شغله بالجهاد مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأمور التي يكلف بها.

ولعظم حب الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يغارون على زوجاته وهن أمهاتهم وكان أعظمهم قدرًا في ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي وافقه ربه في ذلك لما قاله البخاري عن أنس قال عمر بن الخطاب يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب وهي كما يقول ابن كثير قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما(5). ولم تقف غيرة عمر - رضي الله عنه - على أمهات المؤمنين عند حد الاستتار وعدم إبداء أي شيء من أبدانهن بل تجاوزت إلى ما هو أبعد من ذلك لما رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجت سودة - بعدما ضرب الحجاب - لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرقُ فدخلت فقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه وإن العَرقَ في يده ما وضعه، فقال : إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن(6).

ويقول ابن حجر في شرحه للحديث : والحاصل أن عمر - رضي الله عنه - وقع في قلبه نفرةُ من إطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له - عليه الصلاة والسلام - : \"احجب نساءك\"، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ولو كن مستترات فبالغ في ذلك فمنع منه وأُذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج(7).

ولقد قَدَّرَ النبي النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرة عمر - رضي الله عنه - قَدرها حتى في المنام، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بينما نحن عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جلوس فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأةُ تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا؟ قال هذا لعمر فذكرتُ غيرتهُ فوليت مدبرًا\" فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال : أو عليك يا رسول الله أغار\"(8).

فإذا كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يولي مدبرًا حتى لا يرى امرأة عمر بجوار قصرها، فأين هذا الخلق العظيم من أخلاق الذين في قلوبهم مرض فيقتحمون البيوت على المؤمنات الغافلات من خلال الهواتف والمكالمات والمرسلات، أو قهرًا لأهلها في الظلمات، تالله ما لهؤلاء غيرة وإن قلوبهم لفي موات، ثم أين هذا التوقير النبوي للغيرة المحمودة من كثير من الرجال اليوم الذين خرموا الغيرة فإذا هم يعرضون نساءهم وبناتهم وأخواتهم في الشوارع والطرقات متبرجات مزينات، رخيصات، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

 

 

الغيرة منها المحمودة ومنها المرفوضة

لما رواه الإمام أحمد في المسند والنسائي بسند حسن قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في

الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة\"(9).

فعلى الزوجين - وخاصة إن كانا متدينين حقًا - أن يدع كل منهما للآخر مجالاً لمراقبة الله - تعالى - ومحاسبة ضميره، فلا يعكر كل منهما سعادة الأسرة بالغيرة في غير ريبة، وخاصة إذا التزما حدود الشرع وتجنبا مواطن الشبهات، فعلى الزوجة أن تكون مدافعة عن زوجها لا موظف مخابرات تسأله دائمًا أين كنت، وماذا فعلت، إلى آخر هذه المضايقات، وعلى الزوج إذا التزمت زوجته ستر بدنها وعدم الخلوة بالأجانب ولم تخضع في قولها مع الأجانب فلا يقحم نفسه في ريبة تجلب الشقاء للأسرة بغيرة مذمومة، فالأفرنج كان فرسانهم في القرون الوسطى ليضمنوا عفة نسائهم، كانوا يربطون الأحزمة الحديدية ذات الأقفال حول وسط المرأة ويحتفظون بالمفاتيح معهم! لكن في المجتمع المسلم هناك مراقبة الله - سبحانه - فلتكن الغيرة في موضعها الصحيح من غير إفراط ولا تفريط.

 

ما يحدث لو ماتت الغيرة:

أولاً : بدلاً أن يغار المرء على أهله مثل رسوله وسلفه الصالح ينشر أسرارهم فيصير من شرار الناس عند الله منزلة لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها\"(11). ومعنى يفضي إليها بالمباشرة والمجامعة، وقد تفعل المرأة كذلك.

ثانيًا : يستعير لأهله التيوس المستعارة بدلاً من حفظهم وصيانتهم لما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عقبة ابن عامر أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال : \"ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له\". وذكر الذهبي عن ابن عمر أن رجلاً سأله فقال : ما تقول في امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم فقال له ابن عمر لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول اللَّه #(13)، فموت الغيرة مجلبة للعنة من الله وأوسع أبواب السفاح.

ثالثًا : قد تموت الغيرة حتى يُقر المرء الخبث في أهله فيكون ديوثًا ويستوجب أعظم العقوبات وهو الحرمان من نظر الله - تعالى -إليه، لما رواه النسائي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه، والمرأة المترجلةُ والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى\"(14). ويقول الحافظ الذهبي في وصف الديوث : هو من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبته فيها أو لغير ذلك ولا خير فيمن لا غيرة له(15).

رابعًا : وإذا قل الغيورون وكثر الديوثون صارت أخلاقهم كأخلاق الحمير، وهذا بين يدي الساعة كما في حديث البزار والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : \"لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير\". قلت : إن ذلك لكائن؟ قال : نعم ليكونَنَّ. ويقول الألباني مصححًا له : وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعًا وهو : \"والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذ من يقول لو واريتها وراء هذا الحائط\"(16). فغيرة خير الناس في ذلك الوقت ليست إنكار الفاحشة ولا منعها ولا تغييرها وإنما أن يأخذها بعيدًا عن الطريق العام ويتوارى وراء حائط. نسأل الله ألا يدركنا هذا الزمان ولا ندركه، وأن يستر عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply