التشبه بأهل الكتاب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله التي هي نِعمَ المدَّخر ليوم المعاد، اتقوا الله - سبحانه - واشكروه على نعمه التي أسداها إليكم ومنَّ بها عليكم.

أيّها الناس، كان الناس قبل بعثةِ النبي في جاهلية جهلاء وضلالةٍ, عمياء، من مقالاتٍ, يظنونها علمًا وهي جهل، وأعمالٍ, يحسبونها صلاحًا وهي فساد، غاية البارع منهم علمًا وعملاً أن يحصل قليلاً من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين، قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل أحدهم بعملٍ, القليلُ منه مشروع، وأكثره مبتدَع لا يكاد يؤثِّر في صلاحه إلا قليلاً. ولقد مقت الله - تعالى -أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، لم يبق منهم قبل البعثة إلا قلة.

عباد الله، لقد هدى الله الناس بعد ذلك ببركة نبوة محمد وبما جاء به من البينات والهدى، هدايةً جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين، حتى حصل لأمته المؤمنين منهم عمومًا ولأولي العلم خصوصًا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الكريمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم قاطبةً إلى الحكمة التي بعث بها نبيّنا لتفاوتا تفاوتًا يمتنع معرفة قدر النسبة بينهما، فله - سبحانه - الحمد كما يحبّ ويرضى.

عباد الله، بعِث الرسول بالأمر بالتوحيد والبراءة من الشرك، ولقد كان من أوائل ما نزل عليه من القرآن قول الله - سبحانه -: \"وَالرٌّجزَ فَاهجُر \" [المدثر: 5]، قال ابن زيد في تفسير هذه الآية: \"الرجز: آلهتهم التي كانوا يعبدون، أمره أن يهجرها، فلا يأتيها ولا يقربها\".

أمر الله نبيه أن يهجر الشرك وأهله، ذاك أنه لا يمكن أن يجتمع الشرك مع الإيمان، فإذا وقع هذا رفع ذاك، وإذا وقع ذاك رفع هذا، كما أنّ الليل والنهار لا يجتمعان فكذلك الشرك والإيمان.

دعا الرسول في مكة مدةً من الزمن، حتى اشتد أذى كفار قريش له ولأصحابه، حتى إذا خشي الرسول من تزايد أذى الكفار على المسلمين أمر أصحابه أن يفروا بدينهم إلى الحبشة فرارًا بدينهم ليغادروا موضع الشرك وأهله.

ثم أمر الله نبيه أن يهاجر بدينه من مكة إلى المدينة، حتى إذا قوي الإسلام بفتح مكة التي كانت فيما قبل دار كفر فأصبحت بعد الفتح دار إيمانٍ, وإسلام جعل الله فتح مكة فارقًا في الأجر، \"لا يَستَوِي مِنكُم مَن أَنفَقَ مِن قَبلِ الفَتحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعظَمُ دَرَجَةً مِن الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلُوا \" [الحديد: 10].

لقد جعل الله الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام أمرًا لازمًا لا شك فيه، فمن لم يهاجر فقد قال الله - تعالى -عنه: \"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُم المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيرًا إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِن الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ \" [النساء: 97، 98]، ولقد قال: ((أنا بريء من رجلٍ, مسلمٍ, يقيم بين أظهر المشركين)) رواه الترمذي وأبو داود.

عباد الله، لقد جاء دين الإسلام آمرًا أتباعه بالبعد عن كل ما فيه تقريب من الشرك، وجاء بالنهي عن كل ما فيه مشابهة للمشركين أو مماثلة لهم. جلس رسول الله مدة يصلي إلى بيت المقدس وهي قبلة اليهود، وكان يودّ لو استقبل الكعبة، فلما أمره الله باستقبال الكعبة مخالفةً لليهود غضِبت يهود عند ذلك، وقالوا: \"مَا وَلاَّهُم عَن قِبلَتِهِم الَّتِي كَانُوا عَلَيهَا \" [البقرة: 142].

ولما كثر الناس بالمدينة اهتمّ الرسول للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب رايةً عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع وهو شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: فذكروا له الناقوس فقال: ((هو من فعل النصارى))، إلى أن أرِي عبد الله بن زيد الأذان في منامه. رواه أبو داود وأصله في الصحيحين.

ولما جاء عمرو بن عبسة إلى رسول الله ليخبره عن الصلاة، قال له: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفعº فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار))، ثم قال: ((وصل العصر بعد الفيء ثم أقصِر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطانٍ, وحينئذٍ, يسجد لها الكفار)) رواه مسلم، فنهاه النبي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبهاº لأنه وقت يصلي فيه الكفار.

 

عباد الله، لقد قطع الإسلام مادة المشابهة للكفار من أصلها، في الصحيحين: ((خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى))، وروى أبو داود عن شداد بن أوس أن النبي قال: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم))، وروى مسلم في صحيحه أن الرسول قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))، وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه أنه قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطرº لأن اليهود والنصارى يؤخرون))، ويقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: وَيَسأَلُونَكَ عَن المَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى فَاعتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ [البقرة: 222]، فقال: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. رواه مسلم في صحيحه.

 

عباد الله، لقد جاءت أوامر الشريعة ناهيةً عن كل ما فيه مشابهة حتى في أخص عبادات المسلمين ومعاملاتهم، أفيرضى عاقل بعد ذلك أن يوافق اليهود أو النصارى في أعيادهم وأكاذيبهم؟! لما صلى رسول الله في مرضه جالسًا وصلى خلفه الصحابة قيامًا أشار إليهم فقعدوا، فلما سلموا قال: ((إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتمّوا بأئمتكم)) رواه الإمام مسلم. ولما جاء الرسول إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فأمر الناس بصيامه، ثم قال: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهودº صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده)).

 

عباد الله، إن اليهود والنصارى لا يقرّ لهم قرار حتى يفسدوا على الناس دينهم، \" وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدٌّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم \" [البقرة: 109]، \" وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم \" [البقرة: 120].

إن المسلمين ـ أيها الناس ـ أهدى الناس طريقًا وأقومهم سبيلاً وأرشدهم سلوكًا في هذه الحياة، وقد أقامهم الله - تعالى - مقام الشهادة على الأمم كلها، \" وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا \" [البقرة: 143]، فكيف يتناسب مع ذلك أن يكون المسلمون أتباعًا لغيرهم من كل ناعق، يقلدونهم في عاداتهم، ويحاكونهم في أعيادهم وتقاليدهم؟! ورسول الله نهى المسلمين جميعًا أن يتلقوا عن أهل الكتاب، فعن جابر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أتى النبي بكتابٍ, أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب رسول الله ثم قال: ((أوَفي شكٍّ, يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحقٍ, فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني)) رواه أحمد وابن أبي شيبة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاعلموا ـ أيها الناس ـ أن دين الإسلام هو دين الكمال، والتمسك به هو العز، وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ [المنافقون: 8]، ومع أن الله - سبحانه - قد حذرنا سلوكَ سبيل المغضوب عليهم والضالين إلا أن قضاءه نافذ بما أخبر به رسوله فيما جاء في الصحيحين أنه قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه))، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))، وفي رواية في البخاري: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبرٍ, وذراعًا بذراعٍ,))، قيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))، ويقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا).

 

عباد الله، ما مات الرسول إلا وقد نهى عن كل ما يدعو إلى المشابهة والمماثلة، حتى إنه في مرض موته طفق يطرح خميصةً على وجهه من شدة الألم، فإذا اغتمّ بها كشفها عن وجهه، ثم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)) أخرجاه في الصحيحين، ولكن كم في بلاد الإسلام من قبور نصبت عليها المساجد والمشاهد حتى عبدت من دون الله.

 

عباد الله، إن مشابهة أهل الكتاب ومشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم توجب عند المسلم نوعَ مودة لهم ولا شك، وإننا لندرك جميعًا أن فئامًا ممن يتشبهون بالكفار في لباسهم أو سلوكهم أو عاداتهم أو يتكلمون بلغتهم أنهم تميل نفوسهم إلى حبهم وتقديرهم والإعجاب بهم والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم. فإذا كانوا كذلك فما المانع عند من هذه حاله أن ترنّ نواقيس الكنائس بجوار مآذن المساجد؟! وما المانع عند هؤلاء أن تتعانق الأديان على أرض جزيرة العرب؟! ناسين أو متناسين قول الرسول: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) رواه الإمام مالك.

\"وَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً \" [النساء: 89]. 

أيها الناس، إننا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله.

\" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب:56].

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply