بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى -، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الناس، إن الوصية لكم جميعًا هي أن تتقوا الله - تعالى -حق التقوى، فإن التقوى هي خير لباس وأفضل زادٍ,، وما علا شخص وارتفع إلا بتقوى الله - تعالى -، فاتقوا الله في جميع أوقاتكم وراقبوه، واذكروا نعمه عليكم، وإياكم وكفرها فإن كفرها من أسباب نقم الله، وإن نقم الله بعباده شديدة، \" ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ \" [الأنفال: 53].
عباد الله، إننا مع مضيّ الليالي لا نزداد إلا رسوخا في صدق ما جاء عن الله وعن رسوله، ونزداد أيضا علما بأن ما جاء عن الله وعن رسوله صالح لتعاقب الأيام والدهور، وإنه ما من شيء إلا وقد بين الله حكمه وبينه رسوله.
وإن هناك قاعدة لا بد أن تكون راسخة في عقل كل مسلم، وهي أن خوف الرسول على أمته شديد، وأن الأوائل والأواخر من أمته سواء، حتى إنه أخبر أصحابه عن أشياء لم تكن لتقع في عهده هو، وحذر هو منها خوفا على الأمة، ومن ذلك سؤال حذيفة بن اليمان: هل بعد هذا الخير من الشر؟ فلما أخبره بما سيقع قال: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله وسنتي)).
إنه ما من أمر حذر منه رسول الله إلا وتحذيره عام لكل زمان ومكانٍ,.
أيها الناس، إن ثمة أمرا ثبته الله ورسوله ليعلمه كل مؤمن ومؤمنة على طول الزمن، وهو أن أعداء الإسلام يخططون لسلب المسلمين دينهم وأموالهم والقضاء عليهم: \" وَدَّ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدٌّونَكُم مِن بَعدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِن عِندِ أَنفُسِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم الحَقٌّ \" [البقرة: 109]، \" مَا يَوَدٌّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلا المُشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ, مِن رَبِّكُم \" [البقرة: 105]، \" وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِن استَطَاعُوا \" [البقرة: 217]، \" وَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ \" [النساء: 89].
إن مثل هذه الآيات ترسّخ قاعدة عظيمة وهي سعي المشركين لإفساد الدين وهدمه بأي طريق، لأجل هذا جاء النهي صريحًا من الله - عز وجل - ومن رسوله بتحريم كل ما قد يكون سببا لإزالة دين المسلم، ومن أعظم تلك الأسباب مخالطة المشركين وحبهم والتشبه بهمº لأن المخالطة تقتضي ولا شك امتزاجًا وتداخلاً.
عباد الله، إن من أعظم ما يفسد دين المسلم ويجعله رقيقا هو السفر إلى بلاد الشرك والوثنية، يقول: ((إنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما)) رواه أبو داود والترمذي.
إن بلاد الكفار فيها من الكفر والإلحاد والانحطاط في الأخلاق والسلوك ما يجعل المرء يأنف من البقاء فيها، فكيف والنهى في ذلك ظاهر والدليل قائم؟! جاء جرير بن عبد الله إلى رسول الله وهو يبايع فقال: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال رسول الله: ((أبايعك على أن تعبد الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين)) أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد بسند صحيح، وجاء عن سمرة أن رسول الله قال: ((لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم))، وروى البيهقي أنه قال: ((من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة))، وروى النسائي وابن ماجه بسند حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله قال: ((كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله - عز وجل - من مشرك بعدما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين)).
إن مفاسد السفر إلى بلاد المشركين ليست بتلك الخفية حتى نحتاج إلى أن نعددها، ولكن في أحيان كثيرةٍ, يكون السفر إلى بلاد المسلمين أشد ضررًا من السفر إلى بلاد الشرك وإن اجتمعا في الضرر، ذاك أنها بلدان يميع فيها الدين باسم التمسّك به، وضعوا لهم علماء سوءٍ, يزيّنون لهم ما يريدون.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهنّد
أيّها الناس، إنني أتكلم عن سفر ليس في أذهان الكثير، بل حتى إنهم لا يحسبونه سفرًا، إنه ليس السفر المعتاد الذي ينال المسافرَ فيه مشقة وتعبº ففيه حل وارتحال، وفيه غربة عن الأوطان. إنني أتحدث عن سفر لا يحتاج إلى جوازاتٍ, ولا حجوزات، سفر لا يحتاج المسافر فيه سنا معينا، سفر لا يحتاج المسافر فيه إلى مرافقº بل مرافقه الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، سفر المسافر فيه أمير نفسه، يذهب كيف شاء، وينتقل بين البلدان كلما رغب عن بلد ذهب إلى بلد آخر، سفر يخلو الرجل فيه بمن شاء من نساءٍ, كاسياتٍ, عارياتٍ,، يضحك معهن ويقلب بصره في حسنهن، قد انتزع منه حياؤه.
إنه ـ يا عباد الله ـ سفرٌ المرأةُ فيه تسافر لوحدها لا محرَمَ معها، تختلط فيه مع الرجال، تضحك لضحكهم وتحزن لحزنهم، ووالدها ينظر، وزوجها يبصر، وأخوها يعلم، ولكنهم لا يحركون ساكنًا.
الصغير في هذا السفر له متعة خاصة، ولكنها هادمة للعقيدة مفسدة للفطرة منافية للأخلاق، يتعلم الصغير في هذا السفر ما يستحي من الحديث عنه الكبار.
لا غرو إذًا ـ عباد الله ـ أن يعود الناس من هذا السفر بعقائد منحرفة وفطر منكوسةٍ, وأخلاق فاسدة. إن الناظر فيما يستجد بين المسلمين اليوم من أعياد شركية أو بدع قوليةٍ, أو فعليةٍ, لو تأمله الإنسان لعلم أن مبتدأه تأثر الناس بالمشركين عن طريق هذا السفر، أما كان جديرًا بنا إذًا أن نتكلم عن أصل المشكلة قبل أن نتكلم عن أطرافها، أن نسدّ الباب من أصله؟!
ما تحدث الناس وفتحوا أفواههم في الحديث عن المرأة وحاولوا تغريبها إلا لأن أعداء الملة أظهروا لهم المرأة عبر هذا السفر في صورةٍ, لها وجهان وجه ظاهر مزين أمام الناس، والخفي عارٍ, من الأخلاق هي فيه سلعة رخيصة لا وزن لها.
إن السفر الذي أتحدث عنه هو سفر الإنسان بعقله وقلبه إلى بلاد الانحلال والشرك والمجون عبر القنوات الفضائية التي غزت بيوت فئامٍ, من الناس.
إن السفر إلى هذه البلدان عبر القنوات الفضائية أشد ضررا وخطرا، وأقبح نتيجة من السفر إلى تلك البلاد بالجسم بالطرق المعروفةº لأن المسافر بجسمه يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، لكن الناس الذين يقضون أوقاتهم أمام هذه القنوات هم فقط يلتقطون ويسمعون ليس إلا.
عباد الله، إن هذه القنوات الفضائية التي رضي ناس أن يدخلوها بيوتهم محرمة شرعًا، وإنه وإن تجوّز ناس بإباحتها إلا أنهم يقرون ولا بد بأن ما فيها من خيرٍ, غارق في بحرٍ, من الظلمات، قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا [البقرة: 219]، والحرمة تقدّم على الإباحة، ذلك لأنها وإن سلمت من الدعوة إلى الشرك الصريح فلن تسلم من الدعوة إلى الانحلال الخلقي والفكري والسلوكي، ولن تسلم من علماء سوء يزينون للناس ما أرادوا باسم السهولة والتيسير. وأكبر شاهد على ذلك أننا صرنا نسمع ونقرأ عمن يتحدثون ويشككون في أمور هي من مسلّمات العقيدة ويجادلون فيها، وما جاء ذلك منهم إلا تأثّرًا بمثل هذه القنوات.
أما جانب الأنباء والأخبار في هذه القنوات فحدث ولا حرج، كم قلبت من حقائق، وكم أثيرت من فتن، وكم كبر من صغير وعظم من حقير بسبب نشرة أو تحليل أخبار، ونسي الناس أن أكثر هذه القنوات قد سبحت في بحر الصهيونية أو خاضت في غمار الماسونية.
عباد الله، إذا وجد الحياء في نفس المرء منعه من الكثير، وحال بينه وبين الحقير من الأمور، وأما إذا خلع المرء برقع الحياء ولم يعد في وجهه للمروءة ماء أتى السيئات وهو يظن نفسه محسنًا، وتجرأ على المنكر الشنيع وهو يحسبه هينا، وقد قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الصادق في وعده، المتصرف في خلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله، هو - سبحانه - يعد المحسن فيوفيه وعده، ويتوعد المسيء فيوقع عليه وعيده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان رفيقًا بأمته يبحث الخير لهم ما استطاع، ويخاف عليهم من الشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن التقوى هي الوصية لكل مؤمنٍ, ومؤمنة، فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ واحذروا عقابه.
أيها الناس، هذه ثلاثة أمور هي ذكرى لكل رجلٍ, رضي أن يدخل مثل هذه القنوات في بيته:
الأولى: أن الله - عز وجل - قد أمر الناس أن يتقوا الله في أنفسهم، فأين تقوى الله في هذه المعصية حين تجول ببصرك بين أمورٍ, محرمةٍ, ومنكرة؟!
الثانية: أن الله أمرك بأهل بيتك وأن تقيهم من النار: يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ [التحريم: 6] أي: أنقذوا أنفسكم وأهليكم من نار الله الرهيبة الموجعة، وأنقذوا معكم أهليكم الذين تزعمون أنكم تحبونهم، فكيف تحبونهم وأنتم تلقون بهم في مجالاتٍ, خطرةٍ, وعفنٍ, ماجنٍ, وصورٍ, منحلةٍ,؟!
ألا يخشى من رضي لأولاده وأهل بيته بمثل هذه الأمور من مغبة حديث رسول الله الذي في صحيح مسلم؟! يقول عليه صلوات الله وسلامه: ((ما من مسلم يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))، ولا أدري هل من أحدٍ, ينازع في أن مثل هذه الأمور من الغش للأهل والأولاد؟!
فإن أبيت إلا السير خلف هوى نفسك ومطاوعة الشيطان فأذكرك أمرًا ثالثًا: وهو أن أمامك أمرين لا محيص لك عنهما، وهي أنك تتقلب في نعم الله صباح مساء، ألا تخاف أن يفجأك الله بعقوبةٍ, من عنده؟! فما أكثر العقوبات الدنيوية، هذه الزلازل ما بين طرفة عينٍ, تنتهي بلاد كاملة، أتظن أنك في ملجأ من الله؟! إن كفر النعم وعصيان الله في أرضه هو سبب النقم من الله.
إنك إن أبيت إلا الإصرار على الذنب فإن أمامك أمرًا آخر لن تنجو منه وهو المبيت في حجرةٍ, مظلمةٍ, يملأ التراب فاك وينخر الدود عظامك، ثم تقف حافيًا عاريًا أمام الله يوم القيامة، ويزيد من ألمك وحسرتك أن أهلك وذويك سيتعلقون بك في ذلك اليوم يريدون حقوقهم، كيف خدعتهم وغششتهم؟! سيتعلق بك زوجك وابنك وبنتك وأخوك، \" وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلٌّ نَفسٍ, مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ \" [البقرة: 281]، \" يَومَ تَشهَدُ عَلَيهِم أَلسِنَتُهُم وَأَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ \" [النور: 24]. فإلى كل شخص وضع هذا الجهاز في بيته أقول: ستقف والله بين يدي الله يوم القيامة وسيسألك، فماذا ستجيب أمام علام الغيوب؟!
أيها الناس، إن من يعلم بضرر هذه القنوات الفضائية وقبيح عاقبتها ثم لا يستجيب لنداءٍ, ولا يرعوي لموعظةٍ, فلا عليه إذًا أن يجد على رقبة ابنه ناقوسًا أو صليبًا، ولا عليه أن يرى أبناءه يترنحون من أثر المسكرات والمخدرات، ولا عليه أن يرى بنته ومحرمه تصادق فلانًا وتخرج وتدخل بلا حياءٍ, ولا غيرةٍ,، ولا عليه أن يسمع عن علاقاتٍ, محرمةٍ, بين نساءٍ, متزوجات مع أخدانٍ, وأصحاب.
إن ما يبصره المرء عبر هذه القنوات لا بد أن يتأثر به وإن طال الزمن، ولكن الشيطان يعمي ويصم. إن المرء قد يمضي سنواتٍ, طويلةً في إصلاح أهله وأولاده ثم يفسدهم في لحظاتٍ, إذا سمح لهم بمثل هذه الأمور.
عباد الله، \"إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56]...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد