تعليم النبي لأصحابه


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فأوثق العرى كلمة التقوى.

أيها الناس، إن هذه الأمة أمةَ محمد خير أمة أخرجت للناس، الصدارةُ منزلتها، والقيادة مرتبتها، \" وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا \" [البقرة: 143]. إن مصدر أصالة الأمة ومنبر توجيهها ومنار تأثيرها هو التمسك بتعاليم دينها، \" كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَن المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ \" [آل عمران: 110]. هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج وقامت بالحق.

إن أمةً رفع الله من شأنها ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد والتبعية، وإن أمة قد وضحت لها المعالم من السفاهة أن تطلب الحقَّ في معالم غيرها.

عباد الله، إن أعظم مِنّة منّ الله بها على هذه الأمة هو أن بعث فيهم محمدا مبشرًا ومنذرًا، وقبل ذلك وذاك معلما ومرشدا، \" لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ, مُبِينٍ, \" [آل عمران: 164]. حين دعا إبراهيم - عليه السلام - لذريته من بعده دعا لهم بكل خير، ولكنه لم ينس أن يسأل الله لهم بالمعلّم الناصح والمرشد الموجه: \" رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ \" [البقرة: 129]، فلما أوجد الله هذا الرسول جعل وجوده قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة، \" كَمَا أَرسَلنَا فِيكُم رَسُولاً مِنكُم يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُم وَيُعَلِّمُكُم الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَا لَم تَكُونُوا تَعلَمُونَ فَاذكُرُونِي أَذكُركُم وَاشكُرُوا لِي وَلا تَكفُرُونِ \" [البقرة: 151، 152].

وما مات حتى علم الناس كل شيء، روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: لقد تركنا محمد وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا عنه علمًا.

عباد الله، لقد أفنى رسول الله عمره كله في سبيل تعليم أمته ونشر الدين بينهم.

كان صلوات ربي وسلامه عليه يعلم الناس على جميع أحواله، في مسجده، في خطبة الجمعة، في مواعظه لأصحابه، يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: إني لأتخوّلكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.

بيته مدرسة، ولهذا كان الصحابة إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى بيوت النبي يسألون زوجاته عن عمله في بيته.

كان يعلم الناس وهو واقف على ناقته، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: لقد رأيت النبي وهو واقف على ناقته في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) رواه البخاري.

عباد الله، لقد كان لا يدع فرصةً للتعليم إلا اغتنمها، يقول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: كنت يومًا خلف النبي على الدابة، فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.. )) الحديث رواه الترمذي. ويقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: كان النبيّ على حمار، وكان معاذ رديفه، فقال: ((يا معاذ بن جبل))، فقال معاذ: لبيك يا رسول الله وسعديك ـ ثلاثًا ـ، ثم قال: ((ما من أحدٍ, يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار)) متفق عليه.

أيها الناس، يقول منظرو التعليم: إن التعليم التطبيقي أرسخ من التعليم النظري، ولقد سبقهم إلى ذلك محمد، يقول عمر بن أبي سلمة - رضي الله عنه - كنت غلامًا في حجر رسول الله، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله: ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) متفق عليه. وكان يمشي ومعه الحسن بن علي، فوجد تمرةً، فأخذها الحسن، فقال: ((كخ كخ، أما علمت أنّا لا تحلّ لنا الصدقة؟)).

 

عباد الله، إن أمر تعليم الناس أمر عظيم، حتى إنه ليوقف غيره من العبادات لأجل العلم، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي رفاعة العدوي - رضي الله عنه - قال: انتهيت إلى النبي وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليّ رسول الله وجعل يعلّمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها.

أيها الناس، لئن كان يعلّم الناس بأقواله وأفعاله فلقد كان يعلمهم بأخلاقه، يقول معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -: بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكلَ أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكتّ، فلما صلى رسول الله فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) رواه الإمام مسلم.

 

عباد الله، بمثل هذه الأعمال من المصطفى علّم أمته كلَّ شيء، حتى بلغ من ذلك أن بعض المشركين قال لسلمان الفارسي: إنا نرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة! قال سلمان: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع دابةٍ, أو عظم.

إن مستوى التعليم في زماننا لم يضعف ولم يهتزّ بنيانه إلا حينما قصرناه على جوانب محدودة فقط. إن التعليم ليس مقصورًا على مدرسة تفتح ثم تغلق ثم تفتح، إنّ الحياة كلها مجال للتعليم، البيت مدرسة، الأب مدرسة، الأم مدرسة، المسجد مدرسة، السوق مدرسة، كل واحدٍ, من الناس مدرسة في أخلاقه وتصرفاته. لما بنيت المدارس ـ وأول ما بينت ببغداد ـ قال علماء ذلك العصر: \"اليوم ينعَى العلم ويودِّعه أهله\".

ألا فاتقوا الله عباد الله، وتفقهوا في دينكم، وليقِم كلّ واحدٍ, منكم نفسه معلمًا لغيره.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حقَّ حمده، أفضل ما ينبغي لجلال وجهه، أحمده - سبحانه - لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد: روى الإمام الدارمي في سننه عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما توفي رسول الله قلت لرجل من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب رسول الله فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من ترى؟! فترك ذلك وأقبلتُ أنا على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسّد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عمّ رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إلي فآتيك؟! فأقول: أنا أحقّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي صاحبي الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: كان هذا الفتى أعقل مني.

عباد الله، إن السابقين ما نالوا من العلم ما نالوه إلا بالمشقّة والمكابدة، وإننا لن نصل إلى مثل ما وصلوا إليه في وقتهم إلا بمثل ذلك العناء والمكابدة.

أيها الناس، إنه وإن تعددت وسائل التعليم وطرائقه إلا أنه بقدر ذلك تتعدّد المغريات والملهيات، وإن خطرها وتأثيرها لمِن أشدِّ ما يواجِه المعلّم في هذا العصر، فاتقوا الله عباد الله، وتواصوا فيما بينكم بالحق، وتواصوا بالصبر.

اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وقلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا.

اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply