بسم الله الرحمن الرحيم
من رحمة الله - سبحانه - بعباده المسلمين أن امتن عليهم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن أعظمها ابتعاثه إليهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم -، رؤوفا رحيما بهم، بدين يسر لا عسر، وبشريعة سمحة سهلة، قال عنها - صلى الله عليه وسلم -: \"بعثت بالحنفية السمحة. \"
يسر لهم فيها ما كان معسرا على الأمم قبلهم وأحل لهم ما كان محرما على غيرهم من الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم إزرهم، و\"الأغلال التي كانت عليهم\"، ومع هذا كان كثيرا ما يحذرهم وينهاهم عن التشديد على أنفسهم والغلو في دينهم، وينهاهم كذلك عن الجدال والمراء في غير طائل، ويأمرهم بإتباع المحكمات، والابتعاد عن الخوض في المتشابهات، وكثرة السؤال في المواضيع التي لا يجني السائل منها إلا ضياع وقته، إلى غير ذلك من الأوامر والوصايا التي كان يريد من ورائها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبعد أمته، وذلك من حرصه عليها أن تبقى طليعة الأمم كما أراد لها الله، وكما أراد لها وتركها عليه، ويريد لها من وصاياه أن تتبع ما أمرها به وما رسمه لها، حتى لا تفعل مثل الأمم التي سبقتها فتضل كما ضلت، وإنما ضلوا لأنهم تركوا ما جاء به أنبياؤهم، واختلفوا عليه في ذلك،
ولهذا يوصينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى وصاياه \"إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم\". ولقد ترك لها الكتاب المنير الذي جاءها به من عند ربه، وفيه من الآيات البينات التي لا يضل معها أحد سار في ركب هذا النبي العظيم واستنار بهديه.
ولكن يبدو أن بعض ذوي النفوس المريضة يحسبون أن التيسير في الدين علة ينبغي استئصالها وذلك بفعل النزعات المتشددة التي تثار في أنفسهم فيريدون فرضها على الدين نفسه. وقد جاء نفر من هذا النوع إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون أزواجه عن أعماله في بيته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، عدوها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أي أنهم يقولون ذاك رسول الله يقلل أعماله لأنه قد غفر ذنبه أما نحن فيجب أن نكثر عسى أن يغفر لنا ربنا، هذا ما وقر في أنفسهم، ووقف هؤلاء النفر يشرعون لأنفسهم النهج الذي يريدون أن ينهجوه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال الثاني وأنا أصوم فلا أفطر والثالث قال وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج. ويصل خبرهم إلى الرحمة المهداة، - صلى الله عليه وسلم -، فيسرع إلى المنبر وقد جمع الناس لأجل أن يصحح هذا الفهم الأعوج السقيم، ويببن الحق المستقيم فيقول: \" ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني\". فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يفعل ذلك إلا لتقتدي به أمته فهو يعلم أنه سيكون فيها المريض والعاجز، الذين لا يستطيعون الأعمال الشاقة ولذلك فهو يتجوز حتى لا يشق عليه أما من لم يرض بهذا التجوز والتيسير فهو راغب عن السنة ومن رغب عن سنته - صلى الله عليه وسلم - فليس منه. ليس معنى ذلك أنه خرج عن الدين، وإنما فعله ذلك ليس من خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمرنا أن نقتدي به.
وقد عرفت اجتهادات بعض علماء الشريعة الإسلامية في المسائل الاجتهادية بالتشدد، وأخرى بالتساهل، ولكن تظل هذه كلها آراء أصحابها، وما يرونه من أدلة تثبت حجتهم في ذلك الأمر، ويبقى كذلك الأجر فيها لهم إن أخطأوا وإن أصابوا.
وكانوا كلهم مجتهدين، ويعترف كل منهم لصاحبه بالفضل، ولا يطعن أحد منهم في الآخر لا في علمه ولا في دينه وإن اختلفوا، وهذا لأنهم يفهمون حكمة هذه الشريعة السمحة، وما جاءت به للناس، وكل منهم كان يعلن ويصرح بأن رأيه إن ظهر ما يخالفه من كتاب وسنة فليأخذ الناس بهما، ويضربوا برأيه عرض الحائط.
هكذا صرح كل العلماء والفقهاء من السابقين واللاحقين، وهذا الاختلاف في حد ذاته من رحمة الله بعباده.
ولكن بعض الناس المتأخرين الذين كلت أفهامهم عن فقه الشريعة على وجهها الصحيح وحقيقتها الواضحة، عمدوا إلى بعض الآراء الفقهية المتشددة، فتمسكوا بها وأرادوا أن يلزموا جميع الناس بالاستمساك بها، وإن لم يتبعوهم في ما يريدونه وخالفوهم، بدأوا في اتهامهم والطعن فيهم والتشنيع عليهم، وفض الناس عنهم، وإلى ما هنالك من أساليب.
فهل هكذا أمرنا الإسلام؟!
وهل بهذا جاءنا نبينا - صلى الله عليه وسلم -؟!
وهل هكذا كان سلف الأمة الصالح الذين نحرص على الانتساب إليهم؟!
ما أحوجنا إلى فهم ديننا كما أراده الله وكما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد