التميز والمفاصلة بين المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلي ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أنواع التميز:

أشرنا فيما مضى[1] إلى أن التميز واجبٌ على المسلمين بأنواعه الثلاثة:

1 التميز في العقيدة والمنهج.

2 التميز في الهدي الظاهر.

3 التميز في الوجود والكينونة.

 

وهذا مجال تفصيل هذه الأنواع.

 

1 التميز في العقيدة والمنهج:

الدين - كما يريده الله - عز وجل - هو صورة واحدة فقط من صور الاعتقاد الكثير.. صورة التوحيد الخالص من شوائب الشرك في الطاعة والعبادة والاتباع والاعتقاد.. ويشمل هذا التوحيد ما يلي:

أولاً: توحيد العلم والاعتقاد وهو يتضمن تنـزيه الله - تعالى - عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد، وإثبات صفات الكمال كلها لله - سبحانه -. وقد يسمى: توحيد المعرفة والإثبات.

 

ثانياً: توحيد القصر والطلب والإرادة وهو ألا يتوجه بالعبادة لأحدٍ, غير الله، ولا يشرك بالله - تعالى - أحداً سواه، بل يكون المعبود هو الله - تعالى - وحده[2].

 

فالقسم الثاني مبنيُّ على الأول، والقسم الأول لا جدوى منه إذا لم يقترن بالثاني، وما جاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقول الناس إن الله موجودٌ فحسب، ولا إنه - سبحانه - متصفٌ بصفات الكمال فحسبº وإنما جاءت أيضاً بتوحيد العبادة وتحديد الوجهة، وصرف الأعمال إلى مستحقها وهو الله - تعالى -، والإيمان بـهذه الأشياء كلها هو أُسٌّ العقيدة، وعلى أساسه تقوم الأركان الأخرى، كالإيمان بالملائكة، والكتب والرسل والمعاد والقدر.

 

هذه العقيدة المتكاملة.. النقية الصافية التي غايتها إثبات الكمال لله - تعالى - من كل وجه، ثم التوجه إليه بالعبادة أي: بالحياة كلِّها والاستسلام له والانقياد والخضوع.. هذه العقيدة هي المفرق العظيم الذي ينصدع الناس إزاءه إلى صدعين، ويتميزون إلى صفين.

 

ولهذا لأن العقيدة هي منطلق جميع الأعمال بلا استثناء، ولأنـها المحك الذي يفترق عنده البشر- ظلّ القرآن الكريم يتنـزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنةً في مكة.. وموضوع العقيدة هو المحور الذي تدور حوله الآيات.

 

لقد كان القرآن الكريم يعالج القضية الأولى والقضية الكبرى والقضية الأساسية في هذا الدين: قضية العقيدة ممثلة في قاعدتـها الرئيسية: قاعدة تعريف المخلوق الضعيف بالله - تعالى - وأسمائه وصفاته، ثم دعوته إلى صرف العبادة كلِّها إليه.

 

لقد كان القرآن الكريم يفسر للإنسان سر وجوده ووجود الحياة من حوله، ويجيبه على تساؤلاته الملحة: من هو؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟ ولماذا جاء؟..

 

ومن خلال هذا التفسير كان القرآن الكريم يبين للإنسان كيف يؤدي واجبه نحو الله - تعالى -.. وكيف يؤدي واجبه نحو نفسه.. وكيف يؤدي واجبه نحو إخوانه البشر كل ذلك في حدود طاقته البشرية.

 

وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً في مكة في تقرير القضية التي ليس وراءها شيءٌ في حياة الإنسان إلا ما يقدم عليها من المقتضيات والتفريعات[3].

 

لقد كان هذا الموضوع هو ما يتحدث عنه القرآن الكريم حتى تبين بياناً كاملاً لا لبس فيه ولا غموض.. تبينت حقيقته وأدلته ومقتضياته وأبعاده، كما تبين خط سيره في التاريخ، والانحرافات التي طرأت على أتباع الأنبياء على مدى العصور فأضلت الناس عن طريق الله، وندَّت بـهم إلى بعيد.

 

بين الله - تعالى - أمر العقيدة هذا البيان ليكون القرآن كتاب هذه العقيدة منارةً تـهدي الناس عبر العصور إلى المنهج الرباني الصحيح. كما بينه - سبحانه - لتتربى من خلاله الفئة المؤمنة المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتي قدر الله - تعالى - لها في علمه أن تقوم بتبعات هذه العقيدة وتكاليفها، وأن تتحمل المهمة الشاقة: مهمة حمل أمانة العقيدة وتبليغها بكل الوسائل، ثم مهمة إقامة المجتمع العقدي الذي تتمثل فيه حقيقة الإسلام، وحراسة هذا المجتمع والدفاع عنه، وأخيراً: مهمة قيادة البشرية كلها إلى منهج الله، وضبط خطاها على الطريق المستقيم.

 

وكانت العقيدة تنمو في نفوس المسلمين من خلال حركتهم الواقعية بـهذا الدين، ومن خلال صراعهم مع الجاهلية التي من حولهم.. فلم تكن العقيدة \"معلومات\" ذهنية باردة تعطى لهم ثم تترك إلى غيرها، ولم تكن حقائق جافة خاوية معزولة عن الحياة، بل كانت هي قضية القضايا والمركز الذي تنطلق منه جميع التوجيهات والأعمال..

 

ومن خلال هذه الفترة الطويلة التي لم تقتصر على المرحلة المكيةº بل الآيات المدنية أيضاً يأتي فيها الحديث عن العقيدة كثيراً، ولكنه يأتي مرتبطاً بالتوجيهات والتشريعات التي يتطلبها الواقع الجديد في المدينة المنورة من خلال هذه الفترة الطويلة.. وما نزل فيها من آيات تربي الصحابة رضوان الله عليهم، وتخرجوا من هذه المدرسة الفذة.

 

وبذلك وجد \"إنسان العقيدة\" الذي أذاب شخصيته في قالبها، وصهر نفسه في بوتقتها.. هذا الإنسان المتميز عن كل بني الإنسان كان أعظم تميزه كما هو ظاهر هو التميز بالعقيدة، ولم يكن هذا التميز تميزاً وجدانياً أو فكرياً فحسبº بل إنه لابد أن يملي على هذا الإنسان \"منهجاً\" معيناً في الحياة والسلوك، ولابد أن يرسم له طريقه المتميز عن كافة الطرق الأخرى: [وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون][الأنعام: 153].

 

وكان لهذه العقيدة ولهذا المنهج من الخصائص والميزات ما يجعل الهوة بينها وبين الجاهلية سحيقةً واسعة لا تُعبر، وأول وأعظم خصائص هذه العقيدة وهذا المنهج أنـهما من عند الله، وما كان من عند الله فلابد أن يكون كاملاً متوازناً مرناً ملائماً لفطرة الإنسان وضرورات الحياة البشرية، غير محابٍ, لفرد أو أسرة، أو قبيلة أو حزب[وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد][فصلت: 41 42]، [أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً][النساء: 82].

 

وهذه الخصائص المتفرعة عن \"ربانية\" العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي هي \"ميزات\" الإسلام عن غيره من الطرق والمذاهب الجاهلية، فالجاهلية كانت لا تملك \"عقيدة\" - يصدق أن تسمى عقيدة سوى بعض الموروثات من أعراف الآباء والأجداد، وبقايا دراسة من دين إبراهيم - عليه السلام -، وقد ضاعت هذه البقايا في عقيدة الشرك المهلهلة الشائهة، التي كانت تحط من قدر الإنسان، وتمزقه إرباً إرباً، وتجعله ضحية الخرافة والخوف والاهتزاز، وتقتل فيه الشهامة والمروءة والإنسانية.

 

وهذه \"الرقع\" المتنافرة الصغيرة لم تكن تلبي حاجات الإنسان وتساؤلاته الفطرية، ولذلك كان \"الشك\" هو الفكرة المسيطرة على أهل الجاهلية فيما عدا إيمانـهم بوجود الله-، وكان \"منهج\" الجاهلية إن صح تسميته منهجاً لايعدو بعض الأعراف والتقاليد الموروثة في مسائل قليلة جداً من شؤون الحياة المختلفة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم تكن هذه المسائل مرتبطة بمعتقداتـهم ولا منسجمة معها، ولهذا كان الجاهلي إذا أحس بتعارض مصالحه الآنية مع معتقده، أو مع تقاليد مجتمعه ضرب بـهذا المعتقد وبـهذه التقاليد عرض الحائط.

 

ومن يراجع تاريخ الجاهلية العربية الأولى يجد أمثلة كثيرة لذلكº فهم يستقسمون بالأزلام فإذا خرج السهم الذي يكرهون وكانوا ملحين فيما يطلبون ألقوا بالأزلام جانباً وذهبوا لسبيلهم، وبعضهم يهجو الأصنام إذا خرج السهم الناهي كما فعل امرؤ القيس حين خرج يطلب ثأر والده، وكانوا يحرمون القتال في الشهر الحرام فإذا دعت حاجتهم لذلك نسأوه واستحلوا فيه القتال، بل قد ينتهكون حرمته بلا نسيء كما فعل نوفل بن معاوية البكري حين انتهك حرمة البلد الحرام وقاتل فيه، وحينما نصحه قومه وقالوا: إلهك إلهك يا نوفل! قال: لا إله لي اليوم!، ثم قال: يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري أنكم لتسرقون الحاج في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟! [4].

 

وإذن فإن مسافة شاسعة بعيدة كانت تفصل بين الإسلام وبين الجاهلية في مختلف مجالات الحياة بصورة يستحيل معها اللقاء أو التقريب، وهذه المسافة بين الجاهلية وبين الإسلام هي نفسها المسافة الفاصلة بين المؤمنين بالإسلام وبين الجاهليين مهما اختلفت مشاربـهم ونزعاتـهم -.

 

ولقد جاء القرآن الكريم يعمق هذا الفاصل ويزيده وضوحاً وبياناً وامتداداً، ويحسم أي محاولة للالتقاء، إلا أن يكون الالتقاء على الإسلام ذاته. وأعظم ما يتجلى هذا المعنى في سورة \"الكافرون\":

 

[ بسم الله الرحمن الرحيم، قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين]، وهذه السورة مخصصة لتقرير مبدأ المفاصلة والحسم والبراءة من المشركين، وقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّاها: \"براءة من المشركين\"[5] وهي مع سورة \"الصمد\" تسميان: \"الإخلاص\"[6] كما أن سورة \"الصمد\" وحدها تسمى سورة الإخلاص، وهما يشملان العقيدة الإسلامية كلها، وقد ذكر الإمام القرطبي عن الأصمعي قوله: \"كان يقال لـ (قل يا أيها الكافرون)، و (قل هو الله أحد) المقشقشتانº أي أنـهما تبرئان من النفاق[7]. وروى قتادة عن زرارة بن أوفى أنـها كانت (أي: الكافرون) تسمى (المقشقشة)[8].

 

ويتضح توكيد معنى السورة للمفاصلة والبراءة من المشركين فيما يلي:

1 قوله - تعالى –[قل يا أيها الكافرون]فهو لم يقل: قل للذين كفروا[9]، ولم يقل: قل يا أيها الذين كفروا، بل جاء بالاسم (الكافرون) في مكان الصلة (الذين كفروا) والسر في ذلك والله أعلم الإشارة إلى أن من كان الكفر وصفاً ثابتاً له فهو حقيق أن يتبرأ الله منه، ويكون هو أيضاً بريئاً من الله، ومن هنا يتبرأ منه الموحد، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائماً أبداً[10]، كما أن في إثبات الوصف بيان سبب المفاصلة.

 

2 وفي نفس الآية جمع الله المشركين أجمعين وأمر نبيه أن يناديهم بنداء واحد، وكأنـهم حزب واحد وقبيلة واحدة، ونادى عليهم بالبراءة منهم ومن معبوداتـهم حالاً ومستقبلاً، قال ابن كثير: \"هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرةٌ بالإخلاص فيه، فقوله - تعالى -: [قل يا أيها الكافرون]يشمل كل كافر على وجه الأرض.. \"[11]، ثم قال: \"وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بـهذه الآية الكريمة[لكم دينكم ولي دين]على أن الكفر كله ملة واحدة، فورث اليهود من النصارى، وبالعكس إذا كان بينهما سبب أو نسب يتوارث بهº لأن الأديان ماعدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان\"[12]، وعبر بـ (الكافرين) دون (المشركين) ليشمل كل كافر سواءً كان مشركاً كالنصارى والعرب، أم غير مشرك كاليهود.

 

3 قوله - تعالى –[لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنتم عابدون ما أعبد]، ما هو السر في تكرار الأفعال؟ فمن أحسن ما قيل في ذلك أن الآيتين الأوليين لنفى الحال والاستقبال، والأخريين لنفي الوقوع في الماضي: أي لم تقع مني عبادة آلهتكم في الماضي، ولا تقع أبداً، وكذلك أنتم لم تعبدوا إلهي ولن تعبدوه مستقبلاً ما دمتم كافرين، فالمقصود: نفي الالتقاء في طريق وسط كما كان اقترحوا عليه - صلى الله عليه وسلم - حسبما تذكر بعض الروايات أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة[13] أو أن يشترك الجميع في المعبودات.

 

واستحسن شيخ الإسلام ابن تيمية كما يذكر ابن كثير معنى آخر هو: أن المراد بقوله[لا أعبد ما تعبدون]نفي الفعل لأنـها جملة فعلية، ]ولا أنا عابد ما عبدتم[نفي قبوله لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك، ومعناه: نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي. قال ابن كثير: \"وهو قولٌ حسن أيضاً\"[14].

 

وهناك أسرار أخرى، وكلها يحتمله معنى الآيات، والمقصود أن تكرير هذه الأفعال أياً كان سرٌّه يحمل معنى تأكيد البراءة من المشركين حالاً ومستقبلاً، وكذلك البراءة من معبوداتـهم، وطرائقهم، ومفاصلتهم على ذلك، فهم يعبدون مالا يعبده المؤمن، والمؤمنون يعبدون مالا يعبده الكفار...

 

----------------------------------------

[1] كان ذلك في العدد 80.

[2] انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم 1/156، ط: مكتبة القاهرة، وهو في التفسير القيم: 531 دار الكتب العلمية، بيروت. وانظر: طريق الدعوة: 1/16 17.

[3] معالم في الطريق، فصل: طبيعة المنهج القرآني.

[4] - سيرة ابن هشام، 4/32، ومغازي الواقدي 2/783، نقلاً عن كتاب: فتح مكة لمحمد أحمد باشميل، ص: 81.

[5] سبق تخريج هذا الحديث، ونضيف هنا أن ابن كثير ذكر أن الطبراني رواه عن جبلة بن حارثة وغيره 4/560.

[6] بدائع الفوائد لابن القيم: 1/156، ط: مكتبة القاهرة، وكذلك: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، ص: 464 465، ط: دار المجد.

[7] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 20/225.

[8] الفتاوى: 16/541.

[9] أنظر أيضاً: تفسير القرطبي 20/226.

[10] بدائع الفوائد لابن القيم: 1/157.

[11] تفسير ابن كثير: 4/560، ط: الحلبي.

[12] تفسير ابن كثير: 4/561.

[13] هذا السبب رواه عبد بن حميد بن منبه، وكذا رواه عنه ابن أبي حاتم، وروي عن ابن عباس، انظر: الفتاوى 16/541، وانظر: بدائع الفوائد، وابن كثير، والقرطبي المواضع السابقة، وغيرها من كتب التفسير.

[14] ابن كثير: 4/561، وانظر: فتاوى شيخ الإسلام: 16/534 601، وكلها في تفسير السورة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply