وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قبل عام تقريبا تلقيت رسالة من أخ عزيز أعزّه الله بطاعته أحسن الظن بي، فاقترح أن أكتب في معنى قوله - تعالى -: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلٌّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المِهَادُ).

فلم أنشط وقتها لذلك

 

وقبل أيام قرع مسامعي ونحن في صلاة العشاء قوله - سبحانه وتعالى-: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغلَبُونَ وَتُحشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئسَ المِهَادُ)

 

وكأني أسمعها لأول مرة، ولا عجب فهذا الكتاب العزيز لا يَخلق من كثرة الترداد.

 

غير أني لما سمعت هذه الآية تداعت نظائرها وتواردت في ذهني.

فأخذت أتأمل قول ربي - جل جلاله -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ).

 

فقلت: سبحان الله!

 

هذا وعد من لا يُخلف الميعاد

وهذا قول من لا أصدق من قوله: (وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، (وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا).

 

أمَا والله ما نحن في شك منه، ولكننا غفلنا عنه.

أمَا والله

(إِنَّهُ لَحَقُّ مِثلَ مَا أَنَّكُم تَنطِقُونَ).

 

أمَا والله إنه لصِدق.

 

أمَا والله ليكونن ما وعد به ربي، وإن غـرّ أناس صولة الكفر، وإن بَهَرَت أقوام حضارته.

وإنّ انتفاش الباطل كانتفاخ الهِـرّ يحكي صولة الأسد!

أو كَمَن رأى وَرَمـاً فظنّـه سِـمـنا!

أو كانتفاخ جِلد البـوِّ يُحشى ثُماما ويُخيّل به للناقة فتحسبه ولدها!

 

وقول الله أصدق وأبلغ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلٌّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المِهَادُ).

 

إن دولة الكفر ساعة، وإن دولة الحق إلى قيام الساعة

وإن جولة الكفر لم تظهر إلا في ضعف دولة الحق [دولة الإسلام]

ولم تضعف دولة الحق إلا ببعدها عن دينها

ويوم أن تمسّكت دولة الإسلام بدينها دانت لها أمم الأرض، حتى قال عظيم الروم وقائدها عن نبي الرحمة:

فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. رواه البخاري ومسلم.

هكذا نطق هرقل، بل هكذا أنطقه الله بكلمة الحق!

لقد أدرك هرقل أن دولة الإسلام إذا قامت لا يقف في وجهها أحد

وقال مقولته ودولة الإسلام في بداية قيامها، لم تتـعدّ جزيرة العرب، بل لم تفئ ظلالها على كامل جزيرة العرب.

 

كيف لو قال اليوم قائلنا: إن أعظم دول الكفر سوف تزول، وأن رئيسها سوف يولّي الأدبار هاربا من جحافل الإسلام؟!

 

لو قيل ذلك: لقيل كلام في الأحلام!

ولكن هذا الأمر وقع عندما صدق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان، فولّى هرقل هارباً، ووقف على مشارف سوريا يودّعها، وينظر إليها النظرة الأخيرة!

 

أمَا والله لو عُدنا إلى ديننا وتمسّكنا به لرأينا بأعيننا صدق موعود الله بالنصر والغلَبة والتّمكين لأوليائه

ولرأينا صدق موعود الله بالهزيمة والذلّ والخزي والهوان لأعدائه

 

ألم يقل رب العزة - سبحانه -: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا)؟

 

لكن متى يتحقق هذا الموعود؟

عندما يتحقق التوحيد، ويرسخ الإيمان، وشرط ذلك: (يَعبُدُونَنِي لا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا).

 

فلا يتحقق المشروط إلا بتحقق الشرط

ولا ينفذ الموعود إلا بتحقيق شرطه

 

(لَن يَجعَلَ اللَّهُ لِلكَافِرِينَ عَلَى المُؤمِنِينَ سَبِيلا).

 

قال ابن القيم - رحمه الله -: فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضادّ الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم. اهـ.

 

كيف نريد النصر والعِـزّة والتمكين وكثير من الجيوش حالها لا يسرّ!

قال والد علي بن المديني: خرجنا مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن فعسكرنا بِبَاخَمرا، فطفنا ليلة فسمع ابراهيم أصوات طنابير وغناء، فقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه هذا!

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول - صلى الله عليه وسلم - سُلِّطت عليهم الأعداء فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئا بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حالٍ, بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة إلى أن تولّى نور الدين الشهيد وقام بما قام به من أمر الإسلام وإظهاره والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنوا عبيد على النصارى فانجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أُخذت مصر من بنى عبيد أخذها صلاح الدين يوسف بن سادي وخطب بها لبنى العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة، فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سببا لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة.

فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سُلِّط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار تحقيقا لقوله: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَل أَدُلٌّكُم عَلَى تِجَارَةٍ, تُنجِيكُم مِن عَذَابٍ, أَلِيمٍ, (10) تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ (11) يَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَيُدخِلكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدنٍ, ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ (12) وَأُخرَى تُحِبٌّونَهَا نَصرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ).

 

وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار.

ثم تكلّم - رحمه الله - عن تسلّط هولاكو على العراق فقال: وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع حتى أنه صنف الرازي كتابا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه \" السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم \" ويقال أنه صنفه لأمِّ السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه، وكان من أعظم ملوك الأرض، وكان للرازي به اتصال قوى حتى إنه وصى إليه على أولاده، وصنف له كتابا سماه \" الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية \" وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين. ا.هـ.

 

والله المستعان.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply