اختلال الأفكار أسبابه ـ مخاطره ـ علاجه ( 2- 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السبب الثاني : الهيمنة و التسلط على الفكر:

مما نشاهده من أصحاب الأفكار المختلة تسلَّطهم على أتباعهم من ضعفة المسلمين، تَسلٌّط جبابرة المُلوك و عتاة الطغاة، يهيمنون عليهم و يزجرونهم و ينتهرونهم، و يربونهم على الطاعة العمياء: طاعة العبد لسيده، فيسحبونهم من المساجد و يسوقونهم من المدارس بالعصا ثم يجندونهم في صفوفهم بسهولة كما قال الشاعر:

 

 أُحِبُ أن أصطاد ضَبّاً سَحبلا رَعى الربيع والشِّتاء أرملا

 

 و عموميات القرآن و خصوصياته تنهى عن هذا النمط القبيح من التربية الشلاء قال - تعالى - (وأتمروا بينكم بمعروف) ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف، و قولُه: (و ما أَنَتَ عليهم بجبَّار) أَراد ما أنَت عليهم بمَلِك، ولا جَبَار و قولُه (لستَ عليهم بِمُسَيطِر)، أي: بمسلَّط تَسلٌّط المُلوك. ولا يعذر الشباب بتسليم رقابهم، فالله - تعالى - لم يعذر قوم فرعون لما انساقوا خلفه إذ قال - تعالى -: (فاستخف قومه فأطاعوه).

 

 لقد استباح أصحاب الأفكار المختلة من أبناء الإسلام ـ رجال غدهم، وعقل الأمة النابض ـ عقولهم التي هي موضع قوتهم، و قد كان المعصوم (يدعو ربه أن لا يسلط على أمته عدواً يستبيحهم÷ فقد استباحت الأفكار الضالة شباب الإسلام، جاء في الحديث (... لا تُسَلِّط عليهم عدوّا من غيرهم فيستَبِيحَ بَيضَتَهم) أي مجَتمعُهم ومَوضع سُلطانهم، ومُستَقَرَّ دَعوتهم، أراد عدَّوا يَستَأصِلُهم ويُهلِكهم جميعهم لقد كان للأفكار الفاسدة تسلط على شباب الإسلام تسلط الشياطين.

 

 علاج التسلط الفكري يتم بتتبع هدي السلف في التربية و التعليم:

عن بن أبي يزيد قال: (رأيت ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ إذا سئل عن الشيء فإذا كان في كتاب الله قال به فإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان عن أبي بكر وعمر قال به، وإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه ) وأخرج البيهقي عن ربيعة الرأي: ( أنزل الله كتابه على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك فيه موضعا لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسن كتابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا وترك فيها موضعا للرأي)

 

علم الشريعة إتباع واستنباط وقول عامة مَن سلف لا يعلم له مخالف:

قال صاحب المدخل باب(ترك الحكم بتقليد أمثاله من أهل العلم حتى يعلم مثل علمهم) قال - تعالى -: (ولا تقف ما ليس لك به علم) عن الشافعي - رحمه الله - قال: (والعلم من وجهين ـ يعني علم الشريعة ـ اتباع واستنباط، فالاتباع اتباع كتاب فإن لم يكن فبسنة فإن لم يكن فقول عامة من سلف لا يعلم له مخالف، فإن لم يكن فقياس على كتاب الله، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فقياس على قول عامة من سلف لا مخالف له، ولا يجوز القول إلا بالقياس وإذا قاس من له القياس فاختلفوا وسع كلاً أن يقول بمبلغ اجتهاده ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده بخلافه)

 

 السبب الثالث الجَهلُ و التَّجهِيلُ و المَجهَلةُ

من أكبر اختلال الفكر الجَهلُ أو إن شئت عدم نضوج الفكر، و ضحالته، والجَهلُ ضد العلم وقد جَهِلَ من باب فهِم وسلِم، و تَجَاهَل أرى من نفسه ذلك وليس به و استَجهَلَهُ عدّه جاهلا واستخفه أيضا و التَّجهِيلُ النسبة إلى الجهل والمَجهَلةُ الأمر الذي يحمل على الجهل، و كانت العرب في جاهليتها تقلل من شأن الجاهل و تشبهه بالراعي فتقول: كأَنَّه راعي غَنَم، يريد في الجَفاء والبَذاذة و تَضرب به المَثَل قال أَبو النجم يصف راعياً:

 

صُلبُ العَصا جَافٍ, عن التَغَزٌّل... الخ

 

 يريد أنَّه يَجفو عن المغُازلة والمزُاح وأَشباه هذا.

 

و لهذا قال الأَخطل لجرير:

فانعق بضَأنك يا جَرير فإنمَّا ** مَنَّتك نفسُكَ في الخلاَء ضَلالا

 

 ولم يكن جرير براعي ضَأن، وإنّما أَراد أنَّ بني كُلَيب يعُيَرَّوُن بالرعي.

 

 ومَن ذهَبَ في قوله: (ومثل الذين كفَروا كمِثل الذي يَنعِق بما لا يسمَع) إلى أنه شبَّههم براعي الضَأنِ في الجَهل، و الواجب في حق الدهماء من الناس الترفق بهم و محبتهم وإدنائهم رغبةً في تعليمهم و نفعهم، لا كما نراه من فعل أصحاب الأفكار الجائرة الجافة المنحرفة ما روي عن أبي ذر أنه قال: (أحب الإسلام وأهله وأحب الغثراء ) قال الأصمعي: الغثراء من الناس الغوغاء، ولم يرد أبو ذر بالغثراء هاهنا الغوغاء والجهّال وإنما أراد بها عامة الناس ودهماءهم، وأراد بالمحبة المناصحة لهم والشفقة عليهم ويقال إنهم إنما سموا الغثراء لكثرتهم و وفور عددهم)

 

السبب الرابع أخذ العلم من صغار الأسنان ضعاف العقول:

الواجب في حق من يرغب في العلم، أن ينتقي و يختار من يتلقى عليه و أن يحقق سلامة شيخه من العيوب المخلة بأهليته كعالم، ولا يتخذ مَن ساد قبل أن يتفقه و يجالس العلماء شيخاً

فمن وجد شيوخه فليزاحمهم بالركب ففي حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ (تَفَقَّهوا قيل أن تُسَوَّدوا). يقول: تعلّموا العلم ما دمتم صِغاراً قبل أن تصيروا سادَةً رؤساء منظورا إليكم، فإن لم تَعَلموا قبل ذلك استحييتم أن تَعَلَّموه بعد الكبر، فبقيتم جُهَّالاً تأخذونه من الأصاغر، و في حديث عبد الله: (لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أتاهم مِن أصاغرهم فقد هلكوا)

 

معاقبة السلف أولادهم إذا لحظوا أنهم يتلقون العلم من غير أهله:

كان السلف يضربون أولادهم إن لحظوا أنهم يأخذون لعلم من غير أهله و في حديث خباب: (أنه رأى ابنه عند قاص فلما رجع اتزر وأخذ السوط وقال أمع العمالقة هذا قرن قد طلع) و العمالقة قوم من الجبابرة كانوا بالشام شبه بهم هؤلاء لما يوجد في بعضهم من الكبر والاستطالة، وذم السلف هذا لما يقع فيه من الرياء والسمعة ولما يدخله من التصنع جاء في الأثر(لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو متكلف) وقد و صفهم لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام) أي صغار الأسنان ضعاف العقول، قال في النهاية حداثة السن كناية عن الشباب.

 

السبب الخامس: النظرة الدونية لأفكار الآخرين واحتقار الفتـيا و الاستهانة بها

من أساب اختلال الفكر أن يرى المرء أن الصواب حكر عليه و حده و أن غيره مخطئ، لذلك لا عجب إن سَفِهَ الـحقَّ وغَمَطَ الناس واستَصغَرهم. و من العجب أن تعمد قادة بعض الجماعات و تسعى مستطيلة في عِرض كل عالم فتحَقَّرَه وتستَصغَره، ولا تراه شيئاً، و لا تجد حامل فكرٍ, معتدل ـ لا يداهنهم ـ إلا وقد غُمِصَ حقه و طعن فى علمه و قلل من شأنه بنظرة متعالية، على سبيل التنقيص و الإزراء، و كان ديدنهم و هديهم لصق الأوصاف الشنيعة و التهم القبيحة بأهل الفكر الصحيح و الرأي العاقل السليم لقد أغلفت أمامهم مناهج السلف و في شؤم فكرهم الشيطاني قال - تعالى - (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) و قديماً قال شيخهم فرعون (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) و قوله - تعالى - (و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)

 

معاقبة عمر قبيصة لسخريته من فتواه:

عن قبيصة بن جابر أنه أصاب ظبيا وهو مُحرِم فسأل عمر فشاور عبد الرحمن ثم أمره أن يذبح شاة، فقال قبيصة لصاحبه: والله! ما عَلِمَ أميرُ المؤمنين حتى سأل غيره وأحسبني سأنحر ناقتي، فسمعه عمر فأقبل عليه ضربا بالدرة فقال: أتَغمِص الفُتيَا وتقتل الصيد وأنت محرم? قال - تعالى - (يَحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدلٍ, مِّنكُم) فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. وقال أبو عبيد: قوله: أتغمص الفتيا يعني أتحتقرها وتطعن فيها?) وبالاستقراء و التتبع نجد قادة الأفكار المختلة طابعهم التهاوَنَ بالعلماء وكفَرَانهم لمجهوداتهم وازدَرَاء مواقفهم من الحاكمية و الطاعة لولاة الأمور، حتى أصبح طابعهم و ددينهم احتقار العلماء وإحباط طلبة العلم واستعبادهم. فلا يخلو محفل علمي ولا مؤسسة أكاديمية إلا وهي غَمِصٌ فى نظرهم مَغموزٌ بها مطعون علـى علمائها بالنِّفَاق فالمسلمون يُصبِحُون و يمسون في نظر أهل الأفكار المختلة غُمصاً رُمصاً و كأن لسان حال هذه الجماعات الضالة يقول لغيرهم من الدعاة المعتدلين و العلماء المخلصين: الدعوة و تبليغ الدين لنا لا لغيرنا و لذا فابتعدوا مذمومين: (اخرُج منها مَذؤوماً مَدحُوراً)

 

ثورة السلف على فتوى ابن عباس في نكاح المتعة:

 عن عُروة - رضي الله عنه -: أنه قال لابن عباس رضي الله عنه (: ما هذه الفُتيَا التي تَفَشَّغَت عَنك) والـمُخَاطَبُ بهذا القول ابنُ عباسٍ,، فـي تـحليلِ الـمُتعَةِ، وعن الزهري(ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر: يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس)

 

أقول للركب إذ طال الثواء بنا ** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس

 

في بضة رخصة الأطراف ناعمة ** تكون مثواك حتى مرجع الناس

 

السبب السادس: الاستخفاف بالحاكم و السخرية بالنظام

من أهم الأسباب في استفحال و انتشار الأفكار المختلة، النظر للولاة الشرعيين بالسخرية و الاستخفاف، و تبديل مكان السمع و الطاعة لمن تجب طاعتهم بسمعنا و عصينا غاضين الطرف عن الأحاديث الآمرة بالسمع و احترام الحاكم العادل و تقديره و و ضعه المكان اللائقة به، ثم إن شأن الطاعة و عدم مفارقة الجماعة شأن جماعي يشتد فى حق العلماء و طلبة العلم بيانه و في حديث عباده (عليك السَّمعَ والطاعة في عُسرِك ويُسرك ولا تنازع الآمر أهله إلا أن تُؤمر بمعصية بَوَاحاً)

 

و قد جعل الشارع الحكيم للسلطان تنظيم أمر الدعوة و أن يعظ هو أو من يراه أهلاً لنشر الفكر الصحيح و له أن يمنع أهل الضلال و البدع من نشر الفكر المختل وفى الحديث: (لا يقصٌّ إِلا أَميرٌ أَو مأمورٌ أَو مُختال) ـ القاصٌّ: الذي يأتـي بالقِصّة علـى وجهها كأَنه يَتَتَبّع معانـيَها وأَلفاظَها ـ أَي لا ينبغي ذلك إِلا لأَمير يَعظُ الناس ويخبرهم بما مضى لـيعتبروا، وأَما مأمورٌ بذلك فـيكون حكمُه حكمَ الأَمير ولا يَقُصّ مكتسباً، أَو يكون القاصّ مختالاً يفعل ذلك تكبراً علـى الناس أَو مُرائياً يُرائي الناس بقوله وعمله. و إلا كان القاص موعوداً بالمقت وفـي الـحديث: (القاصٌّ يَنتظر الـمَقتَ) لـما يَعرِضُ فـي قِصَصِه من الزيادة و النقصان وإنما ذم السلف هذا لما يقع فيه من الرياء والسمعة ولما يدخله من التصنع والتكلف، و الصواب أن الحاكم العادل يعين الدعاة الدعاة المخلصين ويذب عنهم ويمنع القصاصين الكذابين و في حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال(... فإن لم تجد يومئذ خليفة فاهرب حتى تموت فإن تمت وأنت عاض.. الحديث) عن عبد الله بن عمرو( أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال ثم من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع)

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply