بسم الله الرحمن الرحيم
الحوار: مراجعة المنطق والكلام، ويتحاورون: أي يتراجعون.
فقد ورد في التنزيل قوله - تعالى -: {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} [الكهف: 34]، وقوله - تعالى -: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} [الكهف: 37]. ومعنى يحاوره في الآيتين: يراجعه في الكلام.
فإذا انطلقنا من أن الحوار في الإسلام له أهدافه التي يرجى الوصول إليها، فلابد له من ضوابط تحكم سيره، ومرجعية يرجع إليها عند الاختلاف في الآراء، فالمسلم الذي آمن بالله - تعالى - ورضي الإسلام منهجاً لحياته، لا يجوز له مناقشة قبوله بمنهج آخر للحياة، ولا يعقل أنه يتحاور مع سواه على إمكانية أن تصوغ حياته شريعة أخرى غير شريعة الله - تعالى -!.
وعليه فلا بد من تحديد أهم ضوابط الحوار التي تحكم سيره، إذا أريد للحوار أن يبقى في نطاق ما يقبل من قبل المسلم المُحاوِر أو المُحاوَر، وأهم هذه الضوابط ما يلي:
1 - القبول بتعدد الثقافات والتعارف بينها:
يربي الإسلام المسلمين على أن الحوار طبيعة إنسانية، كما أنه ضرورة دينية، فقد كان مهمة الرسل جميعاً - صلوات الله - تعالى - وسلامه عليهم - وهو واجب على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، مصداق قول الله - عز وجل -: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143]، وقوله - سبحانه -: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف: 108]، فالمسلم منفتح على الحوار مع غيره من الأفراد والثقافات، ولكنه في ذات الوقت له ثوابته التي يتمسك بها، ومنطلقاته التي يصدر عنها: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
كما أن الثقافة الإسلامية تؤمن بوجود مصطلحات متقابلة مثل: الإيمان والكفر، والهدى والضلال، والدنيا والآخرة، والجنة والنار، والعدل والظلم، والحق والباطل... الخ وهذه المصطلحات المتقابلة تقسم الفكر والثقافة بين المسلمين وغير المسلمين... ولا يقبل الإسلام وجود هذه المتقابلات في حياة الإنسان الواحد، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً و\"علمانياً\"، أو عادلاً وظالماً، أو على الحق والباطل، أو مهتدياً وضالاً... الخ.
والإسلام يؤمن بأن كل ثقافة تطرح نفسها من خلال مفاهيمها ومصطلحاتها، وبالتالي فإن الحوار بين ثقافتين أو أكثر يقتضي الاتفاق على مضامين ومعاني المفاهيم والمصطلحات، وتحديد المرجعية التي يرجع إليها عند الاختلاف في المعنى أو المضمون...
أما الثقافة غير الإسلامية عامة، والغربية منها خاصة، فهي قائمة على نفيِّ التنوع، ومتمركزة على الذات غير منصفة، فأهل الإنصاف من أتباع الثقافات المختلفة يعرفون ما عندهم، فإذا تبين لهم بالحوار أن فيه باطلاً أنكروه، كما أنهم إذا تبين لهم أن ما عند الآخرين فيه حق، أخذوه، ولا يدفعهم تقديس الذات إلى التمسك بالباطل الذي هم عليه، وإنكار الحق الذي عند سواهم، كما فعل اليهود والنصارى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} [البقرة: 111 - 1112].
وقد نشأ عن هذه الثقافة المنغلقة تطبيقات عملية عبر العصور تمثلت في الاستعمار القديم والجديد، والغزو الثقافي والقهر على كل مستوى وفي مجالات متعددة.
2 - التواضع في طلب الحق والالتزام به:
أثبتت التجارب أن التواضع فضيلة تهدي صاحبها للحق، وأما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق البين الظاهر، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم قوله: \"الكبرُ بطر الحق وغمط الناس\" وبطر الحق رده والإعراض عنهº كما أخبر الخالق - عز وجل - أن معصية إبليس كان الدافع إليها الكبر والغرور، قال - تعالى -: {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34]، ولما سأله الله - عز وجل - عن السبب قال معجباً: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12].
ولا يكون الحوار مثمراً في مجال معرفة الحق إلا إذا كان قائماً على الأدلة والبراهين، ولقد علمنا الإسلام في مجال إحقاق الحق أن نتحاور مع الآخرين وفق قاعدة: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [النمل: 64].
فالمحاور المسلم لا يصدر في نشدان الحق عن طلب المغالبة غروراً، أو الجدال بالباطل، كما أنه لا يقبل الدخول في الجدال المذموم عند إثارة أية فكرة أمامه، فذلك عبث سخيف وجهد ضائع، ويسعى لإغلاق أبواب الحوار التي تدخل بالمحاورين إلى متاهات... ويوجه الحوار إلى الفكرة التي تظهر الحق وتساعد على بناء حياة كريمة قائمة على مد الجسور بين البشر وصولاً إلى مافيه الخير والنفع.
وقد أثبت التاريخ أن الأطراف المتحاورة إذا كانت من أهل الإنصاف فإنها تعترف بالحق عند ثبوته.
ومن الفضائل الهامة أن لا يستنكف المتحاور من قبول الحق ولو جاء ممن هو دونه علماً أو سناً أو قدراً، ومن الرجوع للحق بعد أن يتبين لهº وقد أرشد القرآن إلى أن ابن آدم الأول تعلم من غُراب: كيف يواري سوأة أخيه؟!، كما أن سليمان - عليه السلام - تعلم من الهدهد مالم يكن يعلمه: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين} [النمل: 21].
وقد حفظ لنا التاريخ رسالة الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في القضاء، والتي جاء فيها: \"ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، فهديت فيه إلى رشدك، أن تراجع نفسك اليوم فإن الحق قديم، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل\" [إعلام الموقعين لابن القيم 1/152].
وأن تكون فرصة الحوار متكافئة، فلا يُشعر طرف بالقهر أو الضعف، إذ أنه لو كان الحوار بين قوي وضعيف، أو غالب ومغلوب، أو مستعمر ومستعمر، أو قاهر ومقهور.. الخ، فإنه لن يكون هناك حوار، وإنما سيكون هناك إملاء من طرف والقبول أو الاستسلام من الطرف أو الأطراف الأخرى... وهذا الذي دل عليه الواقع الذي نقله لنا القرآن وسواه، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أ - قص علينا القرآن الكريم ما كان من فرعون - رمز الاستبداد السياسي والقهر - حين جاءه موسى يحاوره {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29].
ب - جاء في الأدبيات وخاصة في الشعر العربي ما يؤكد هذه الحقيقة، وتأمل قول القائل:
جَلو صارماً وتلوا باطلاً *** وقالوا صدقنا، فقلنا: نعم
أي رفعوا السيف فوق الرؤوس وقالوا الباطل، ثم قالوا لهم: قلنا الصدق، فقال من تحت السيف: نعم قلتم الصدق!!.
ج - أما في التاريخ الحديث فيكفي أن يراجع الإنسان مواقف القوى العالمية الكبرى، منذ الحرب العالمية الثانية، تجاه قضايا العالم الثالث على العموم، والبلاد الإسلامية على الخصوص، حتى يتجلى له انطباق هذه الحقيقة على الضعفاء، وكم ضاعت حقوق في مؤتمرات عقدت للحوار حول قضايا محددة؟ تكفي نظرة سريعة على مجريات المؤتمرات التي عقدها \"الكيان الصهيوني\" بإشراف أمريكا مع العرب، ابتداء من \"كامب ديفيد\" وانتهاء بـ \"شرم الشيخ\" حتى يتبين كيف استسلم الضعفاء للأقوياء؟ ويكفي أن يستمع الإنسان أو يقرأ ما قاله رئيس جمهورية البوسنة عقب مؤتمر \"دايتون\" ليعلم مدى الظلم الذي وقع على المسلمين... الخ.
من كل ذلك يتبين أن الحوار الذي لا يقوم بين أطراف متكافئة لا تكون نتائجه إلى خير، وإنما تكون ظالمة... ولذلك أكدت شريعة الإسلام على العدل المطلق بين الصديق والعدو، مع القريب والغريب، وتكفي الإشارة هنا إلى قول الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة: 8].
{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام: 152].
3 - عدم اتباع الهوى ومحاربة الفساد:
الهوى هو أحد المزالق الخطيرة التي يمكن أن تؤثر على المتحاورين وتخرجهم عن طريق الخير، قال العليم الخبير لخاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، واتباع الهوى يؤدي إلى الفساد، قال - تعالى -: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71].
فصاحب الهوى لا يمكن أن يكون موضوعياً ولا منهجياً في حواره، لأنه يريد إخضاع كل شيء لهواه، فالنصوص عنده تابعة لا متبوعة، والأدلة خادمة لا مخدومة، والنتائج عنده سابقة على الحوار... فهو إذا قرأ وإذا درس وإذا حاور... لا يفعل ذلك للوصول إلى الحقيقة... وإنما يفعل ذلك بحثاً عما ينصر رأيه وهواه... ويعضد فكرته ويقويها... فإن وجد مبتغاه فرح وأقبل، وإن وجد خلاف ذلك غض الطرف وأعرض.
والوحي يعلمنا ويربينا معشر المسلمين على طلب الحق ومناشدته، ويكفي أن نتذكر أن القدوة - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته قائلاً: \"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم\" [رواه مسلم وغيره]، فحري بكل مسلم صادق أن يجأر بهذا الدعاء في كل وقت وحين..
كما أن الإسلام يطالب المتحاورين من أبنائه أن يعملوا مع غيرهم على محاربة الفساد، وإشاعة الخير والأخلاق الفاضلة في الأرض، قال - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 114]، كما نقل الله - تعالى - لنا قول الناصحين لقارون: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص: 76 - 777]. والإصلاح المطلوب عام أي: في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي والتخاصم فيه.
وأما سيرة خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فقد بينت هذا الضابط بكل وضوح ويكفي هنا الإشارة إلى \"حلف الفضول\" فقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة مع أعمامه حلفاً قام به بعض رجالات قريش لنصرة المظلوم، ورد الظالم، وهو المعروف باسم \"حلف الفضول\"، وقد قال عن - صلى الله عليه وسلم -: \"لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي بن حُمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت\" [رواه ابن إسحاق والإمام أحمد وصححه أحمد شاكر والألباني].
4 - معرفة الآخرين ومد الجسور معهم:
يربي الإسلام المسلمين على التعارف على الآخرين ومد الجسور معهم ابتغاء البيان لما عند المسلمين من الحق، ولقد حاول المسلمون مد الجسور مع غيرهم لمحاورتهم حول الكون والحياة، ولمعالجة القضايا الكلية المطروحة في مجال الفكر والعمل، ودل الإسلام المسلمين على أساليب الحوار، وخاصة في مجال الأفكار وفي نطاق المنهج العقلي، من خلال طرح الفروض المحتملة وإسقاط الفروض الخاطئة وإبقاء الصحيح، وفق منهج النفي والإثبات العقلي، أو منهج عرض الأفكار والأفكار المضادة... الخ.
كما أمر الله - تعالى - المسلمين باتخاذ الأسباب والسبل لاسماع الوحي لمن لم يسمعه، ثم تجري المحاورة بعد ذلك حول ما لفت القرآن النظر إليه، ويكفي هنا أن أذكر بموضوع واحد من سورة الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تتقون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 151 - 153]، فهذه الآيات أرشدت إلى خمس مجالات للحوار هي:
أ - تطهير النفس البشرية وتزكيتها.
ب - العلاقات بين الأفراد وداخل الأسرة والجماعة والأمة، والتي تقوم على الترابط والتراحم والعدالة الاجتماعية.
ج - الأساس التشريعي في القضاء والقوانين والنظم واللوائح، والذي يقوم على الحق والصدق.
د - الحضارة البشرية في جميع جوانب الحياة، والتي تقوم على ثقافة التوحيد.
هـ - العلاقات والصلات العالمية التي تقوم على العدل والتراحم والتعارف.
كما أمر الخالق - سبحانه وتعالى- المسلمين بإشاعة الخير في الكون ومع جميع البشر، ولا يتم ذلك إلا بالتحاور والاتفاق. قال - تعالى -: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].
الخلاصة:
مما سبق يتبين أن الحوار إذا كان وفق ضوابط الشرع الإسلامي، فإنه يكون وسيلة فعالة من وسائل إصلاح الفرد والجماعة والكون، فبعض القرارات التي يتخذها المتحاورون قد تكون لها آثارها البعيدة المدى في المكان والزمان، ولنتأمل قرارات اتخذت لصالح منع التلوث، أو قرارات اتخذت في مؤتمرات طبية أو مؤتمرات مكافحة الجريمة، أو مؤتمرات العمالة والمواصلات والاتصالات... الخ.
كما أن الحوار قد يصبح وسيلة لضياع الوقت وتمييع القضايا، وإضاعة حقوق العباد والبلاد إذا فقدت الضوابط والمقاييس الصحيحة، فيكفي أن يطلع الإنسان على نتائج القرارات التي اتخذت في المحافل الدولية بشأن كشمير وفلسطين والبوسنة والهرسك والشيشان... الخ.
والمسلم الصادق يحاول دائماً لفت النظر إلى الضوابط القائمة على العدل والحق وإشاعة الخير في الأرض ومنع الظلم والطغيان والشر، فهو يصدر عن مقاييس الله - تعالى - القائل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد