منزلة العقل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

العقل منبع الحكمة ومصباح الهداية ونور البصيرة ووسيلة السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة، وبه استحق الإنسان الخلافة في الأرض، وبه امتاز عن غيره من المخلوقات. قال - تعالى -: \"ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على\" كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) \"{الإسراء: 70}.

ولولا العقل لما استحق الإنسان ذلك التكريم الذي رفعه إلى مصاف الملائكة، وسما به إلى عالم الملكوت الأعلى، ومن أجل ذلك كان العقل مناط التكليف، وكان الجزاء في الدارين على أساس العقل وقوة الإدراك.

وهذه النعمة في الإنسان فتحت له آفاق الحياة، وصار يضرب في أرجاء الأرض، ويغوص تحت الأعماق، ويركب الأجواء، ويسير وراء كل جديد، ويربط بين المادة والروح، ويواصل أبحاثه في الميادين كافة.

وعن طريق العقل اهتدى الإنسان إلى معرفة ربه وخالقه، وعبده وأطاعه وأثبت له الكمال والجلال والجمال، وصدق بالأنبياء والرسل على أنهم نقلوا للناس ما أمرهم الله به، فأعمل عقله وعمل في الحلال والحرام، والنافع والضار، والطيب والخبيث... وكلما أعمل الإنسان عقله وتصرف ببصيرته، حظي بالأمن والسلام، وساد المجتمع الذي يعيش فيه نعمة السكينة والرحمة (1).

وتردد العقل في القرآن زهاء خمسين مرة، منها قول الله - تعالى -: \" إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين 3 وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون 4 واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون 5\"{الجاثية: 3 - 5}.

ومنها قوله - سبحانه -: \"إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون 164\" {البقرة: 164}.

وهذه الآيات وغيرها دعوة صريحة صارمة لإعمال العقل في مخزونات الكون، والتفكير في الاستفادة من طاقاتهº لأن الفكر أداة الإبداع.

وإهمال العقل مثل صارخ للتخلف... وإذا أهمل الإنسان إعمال فكره في شؤون الحياة كان أشبه بالأنعام، وعندها يقف مكانه لا يتقدم، ويضيق ذرعاً بالحياة، لا يعرف الهداية من الضلالة، ولا يعرف الحسنة من السيئة (2).

والعقل ينمو بالتربية والعلم والتجارب، ويضعف بالشهوات والكسل والأمراض، والعقل هو ذلك الميزان الدقيق الذي يميز بين الخير والشر مهما اختلطا، وهو الذي يختار لصاحبه الأحسن من كل شيء، فلا يقول قولاً ولا يعمل عملاً إلا بعد التفكير واتخاذ الأفضل.

ورأس العقل التودد إلى الناس واصطناع الخير لهم، والعاقل حليم لا يغضب، رحيم القلب، صافح عن الزلات، قليل العثرات، عنده لكل مهمة عزم، ولكل هدف سبيل، لا يقول إلا صدقاً، ولا يتكلم إلا حين ينفع القول، ولا يفعل إلا ما يفيد، ولا يستعلي على أحد (3).

ومن عرف ما ينفعه مما يضره في أمر دنياه، عرف أن الله - تعالى - قد من عليه بالعقل الذي سلب أهل الجنون وأهل التيه، وسلب أكثره الحمقى الذين قلّت عقولهم (4).

وترجع كتب اللغة (5) أصل كلمة (عقل) إلى الإمساك والاستمساك والمنع... وعلى هذا المعنى فالعقل هو الذي يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ثم توسع المعنى فأطلق العقل على القوة الغريزية التي تعقل الإنسان عن الأمور القبيحة وتبين له الأمور الحسنة، ومن هنا قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: العقل هو آلة التمييز(6). ثم اتسع المعنى فقيل: إن العقل هو القوة المتهيئة لقبول العلم(7).

وقال عروة بن الزبير: أفضل ما أعطي العباد في الدنيا العقل(8).

والإنسان عقل ووجدان وروح، هكذا تكونت فطرته، ونطقت جبلته(9).

ومن أروع ما جاء في القرآن الكريم: \"قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا 46 \"{سبأ: 46}. ومعناه: أنه لا يطلب منهم إلا خصلة واحدة، وهي: أن يتوجهوا بعقولهم وقلوبهم إلى الله الذي يؤمنون به، وبخالقيته للكون، وتدبير لأمره، مخلصين في طلب الهداية إلى الحقيقة، كل فرد مع صديقه الذي يثق به، أو يفكر وحده، وسيهديهم فكرهم الحر إلى الحق (10).

وقال العلامة البقاعي في تفسير هذه الآية: قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد 46 قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على\" كل شيء شهيد 47\" {سبأ: 46، 47} أي: فاسمعوا وتوجهوا نفوسكم في تعرف الحق اثنين اثنين أو واحداً واحداً، فمن وثق بنفسه في رصانة عقله وأصالة رأيه قام وحده، وإلا ضم إليه آخر ليذكره إن نسي ويقومه إن زاغ ثم تتفكروا أي: تجتهدوا بعد التأني وطول التروي في الفكر(11).

ومما قاله الإمام الشافعي: استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكر(12).

وهكذا، فأصل كل طاعة إنما هو الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الرديةº فيتولد منه الإرادات، فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة، لم يجد لبذره موضعاً، وهذا كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلباً فارغاً فتمكنا(13)

والعقلانية القرآنية - كما يقول رودنسون - تبدو صلبة كأنها الصخر(14).

وقد وضح القرآن المعالم الأساسية التي تقوم عليها العقلية العلمية، ومنها: ألا تقبل دعوى بغير دليل مهما كان قائلها، ورفض الظن في كل موضع يطلب فيه اليقين الجازم، ورفض الأهواء الشخصية، والثورة على التبعية الفكرية للآخرين (15).

وللعقل ضرورات أخلاقية وإدراكية، فهو الذي يدرك المعقولات والمجردات والمفاهيم، وهو مناط التفكير ومرتكز المسؤولية وميزان الله في أرضه (16).

والعقل يقضي على أخطاء الحواس، فالعين ترى الشمس في مقدار حجر، وترى الكواكب في صور منثورة على بساط أزرق، أما العقل فيدرك أن الشمس والكواكب أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة (17).

ويكفي العقل مكانة ورتبة عالية أن ينظر إليه على أنه ثاني نعمة على الإنسان بعد نعمة الإيمان، فهو شرط في التكليف، ومرجع في المقاييس الأخلاقية، ونور يضيء درب العلماء.

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- انظر: احذروا المخدرات - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - العدد السابع - شباط 1986م.

2- القرآن الكريم، بنيته وخصائصه - أ. وهبة الزحيلي - دار الفكر دمشق - ص71-72.

3- من كنوز الإسلام - د. محمد فائز المط - الدار المتحدة بدمشق - ط10/ - الصفحة 218.

4- انظر: ماهية العقل للمحاسبي - حمص 1994 - الصفحة 24.

5- انظر: لسان العرب لابن منظور - دار صادر - بيروت.

6- تفسير القرطبي 371/1.

7- الإسلام والعقل - صلاح المنجد - بيروت 1976 - ص 9.

8- كتاب العقل - ص 13 - ابن أبي الدنيا - القاهرة 1946.

9- انظر: الصفحة (60) من كتاب: الدين في عصر العلم للدكتور يوسف القرضاوي - مؤسسة الرسالة - ط 1 بيروت 1422.

10- الحياة الربانية والعلم - د. القرضاوي - ص 76 - الطبعة الأولى - بيروت 1422.

11- تفسير: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 529/15.

12- إحياء علوم الدين للغزالي - كتاب التفكر.

13- انظر: مفتاح دار السعادة 181/1.

14- انظر: الإسلام والرأسمالية - فصل العقيدة القرآنية - ص 150.

15- الرسول والعلم - د. القرضاوي - الطبعة الخامسة 1411 - ص 38.

16- انظر: قصة الإيمان لنديم الجسر - بيروت - الطبعة الثالثة 1969 - ص 218.

17- المنقذ من الضلال للغزالي - الطبعة (11) بيروت 1983 - ص 63.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply