بسم الله الرحمن الرحيم
\"وسطية الأمة\":
إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال في الأمور كلها، والوسطية هي اللفظ المقبول بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتقصير، والوسطية هي المقبولة بن الطرفين. ولقد نهى الله عن الغلو في كتابه العزيز في قوله: (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل)، الغلو هو: مجاوزة الحد في القول والعمل والاعتقاد. والتفريط هو: عدم القيام بالواجب تهاوناً وكسلاً. والحق هو الوسط، فلا مجاوزة للحد ولا تقصير عن الواجب, وهو أن تفعل ما أراد الله على قدر الطاقة والإمكان، وتترك ما نهى الله على شكل الإجمال. فالعمل على قدر الطاقة والاستطاعة، وأ ما الترك فهو على العزم (ما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فجعل الأمر مربوطاً بالاستطاعة لكون بعض الناس قد يعجز عن بعض العمل، ولكنه عزم في النهي فقال: \"فاجتنبوه\" لعلمه أن كل أحد يقدر أن يترك المحرمات.
والإنسان مطالب أن يعمل على قدر طاقته ووسعه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ثم قال:(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) فالله – سبحانه- قد كلف الناس على قدر طاقتهم ووسعهم، ولم يحملهم مالا يطيقون، فمن عمل بهذه الآية حق العمل فقد قام بالتوسط فهو يعمل بالدين بلا غلو ولا تقصير.
ويستدل البعض بهذه الآية عندما يلام على تقصيره في بعض الواجبات وهو لم يعمل ما بوسعه بل قصر عن الوسع والطاقة. والمعنى الصحيح أن الله قد كلفنا وسعنا وطاقتنا فلا نطالب ما زاد عليها ولكن لا نقصر عنها. والإسلام يدعو إلى التوسط في العبادة، فلا يكلف الإنسان مالا يطيق يقول عليه الصلاة والسلام: {اكلفوا من الأعمال ما تطيقون} {هلك المتنطعون} وفي نفس الوقت لا يتهاون في العبادة (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً). إن تكليف النفس ما لا تطيق أمر مذموم، والتهاون في العبادات أمر مذموم أيضاً، والمطلوب الوسط. و فقدان التوسط في حياة المسلم يؤدي إلى الانقطاع عن الدين كله أو بعضه{إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} {أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل} {إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق} ومن حكمة الله – تعالى- أن جعلنا نقرأ في كل ركعة من الصلاة قوله – تعالى- (اهدنا الصراط المستقيم) الصراط المستقيم هو الدين كله أو هو القرآن أو هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، وهو في الحقيقة كل هذه فلا تنافي بينها، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهم الوسط بين المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به ويمثلهم اليهود، وبين من عبد الله على ضلالة وعمى ويمثلهم النصارى، فالمستقيم هو الوسط بين هذين القسمين يعبد الله على علم وبصيرة. والأمة الإسلامية أمة الوسط ولقد وسمها الله بميسم الوسط فقال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) يقول القرطبي - رحمه الله -: ولما كان التوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً - أي هذه الأمة لم تغلو غلو النصارى في أنبيائهم، ولم تقصر تقصير اليهود في أنبيائهم -. أ هـ والوسط خير كله يقول ابن كثير - رحمه الله -: والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي: خيارها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وسطاً في قومه أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب. أ ـ هـ
أهل الإسلام الحق.
وسط في الإيمان بين الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة، والمعتزلة الذين جعلوه بمنزلة بين المنزلتين، وبين أهل الإرجاء الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب. فقالوا فيه - يعني مرتكب الكبيرة - مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
وسط في باب الأسماء والصفات فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله - عليه الصلاة والسلام - بدون تشبيه ولا تمثيل إثباتاً يليق بجلاله وعظمته، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه نبيه - عليه الصلاة والسلام - بدون تعطيل(إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل).
أمة الإسلام وسط في تعاملها مع الدنيا والآخرة فلا تغوص في وحل الدنيا وتترك الآخرة، ولا تتجرد للآخرة وتنسى عمارة الدنيا(هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قرب مجيب)، فانظر كيف ربط بين عمارة الأرض وبين عبادته أيضاً، ويقول – تعالى-:(فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) ذكر الله هذين القسمين التارك للآخرة وهو خاطئ، والثاني الوسط الذي أعطى الدنيا والآخرة حقيهما وهو الوسط الحق، وترك الثالث لكونه معروفاً وهو أيضاً نادر الوقوع وهو المقبل على الآخرة التارك للدنيا (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك).
ووسط أيضاً في التعامل فلا يكون الإنسان حديداً صلفاً لا يألف ولا يؤلف {فإن الله يبغض كل عتل جواض مستكبر}. ولا يكون أيضاً ذليلاً مهاناً يساق كما تساق الشاة الجماء.
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً
ووسط في التعامل مع الزوجة والأولاد فلا يكون مقوداً حسب الطلب. ولا يكون أيضاً جماعاً مناعاً إنما يكون كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) وليس معنى الخيرية هنا أن ينفذ كل الطلبات، ولا يمنع كل الحاجات. لا بل يعمل ما فيه الخير لهم سواءً بالمنع أو العطاء، لذلك يوم أكثرت أزواج النبي - عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهن- عليه من طلبات الدنيا وطلب النفقة وهو يعلم أن هذا ليس خيراً لهن خيرهن يقول - تعالى-: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً) فلم يعطهن ما أردن مباشرة، ولم يفارقهن مباشرة أيضاً، بل خيرهن - عليه الصلاة والسلام - بين أن يبقين عنده على ما هو عليه، أو أنه يفارقهن بعد أن يمتعهن مما عنده، وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرةº فرضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين. إن الوسطية والاعتدال حفظ لهذا الدين من تيارات هي في الحقيقة هادمة له، ولو فُقد مع هذه التيارات أهل الوسط والاعتدال لحصل لهذا الدين ما حصل لغيره من الأديان الأخرى، وهذه التيارات إما أن تكون غالية متشددة تخرج الإسلام عن وسطيته، وتذهب عنه رونقه ونقائه وصفائه وسماحته إلى الشطط والتشدد، وتكليف النفس مالا تطيق، وتحميل بعض القضايا مالا تحتمل، وتضخيم قضايا أخرى هي في الحقيقة أقل مما ضخمت له، حتى وصل الحال عند البعض إلى تبديع الناس وتفسيقهم، وفي بعض الأحيان إلى تكفيرهمº وهذه التوجهات أو التيارات ليست على وتيرة واحدة بل هي متناقضة في المقاصد، ولكنها تنحو نفس المنحى من التشدد والتعصب وسرعة الحكم على المخالف. وإما أن تكون متراخية متساهلة همها متعتها كلما قيل لهم أمراً من أمور الشريعة مبنياً على الكتاب أو السنة، قالوا: أنت متشدد!! أنت تريد أن تعقد الناس، وتكبت حرياتهم!! أنت متطرف!! فيصمون أهل الإسلام بأوصاف عامة، ولو جلست تريد التحقق من هذا الوصف لظهر التجني الواضح على الشريعة وأحكامها وحملتها، ولا تكاد ترى فيهم متمسكاً بالإسلام إلا قليلاً، بل زاد الأمر عند بعضهم إلى أن سار في ركاب الغرب معجباً بحضارتهم تاركاً الإسلام وتعاليمه ورائه ظهرياً. والحق هو الوسط فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وهو تطبيق الكتاب والسنة على الحقيقة، والعمل بكل النصوص الشرعية، وهذا لا يتأتى إلا من العلماء الربانين الراسخين الذين يعرفون مجريات الأمور، وتغيرات الأحوال، ويقدرون للفتوى قدرها يقول - عليه الصلاة والسلام -:{يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين} يقول ابن القيم - رحمه الله -: فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يأولونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث فلولا أن الله يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء. أ ـ هـ وإنما ظهر ببلادنا من أمور منكرة ينكرها كل صاحب شرع وعقل هي إفراز من إفرازات التشدد في الدين، وتحميل بعض قضاياه مالا تحتمل، وهذه الأعمال ما ظهرت إلا من الفهم الخاطئ والقاصر للنصوص، وهي أيضاً من توجيهات من خرج عن حكم العدل والوسطية في حمل هذا الدين والعلم فهذا (تحريف الغالين). وظهر بالمقابل من أراد أن ينسب هذه التفجيرات والتخريب للدين، ويطالب بمطالب مؤداها تنحية الدين وإبعاده، ومحاربة أهله وهذا يمثل (انتحال المبطلين). لذا فلابد من إعطاء العدول الذين يحملون هذا الدين وهذا العلم حق الحمل إعطائهم المكانة اللائقة بهم، فهم ورثة النبي - عليه الصلاة والسلام - إعطائهم المكانة عند الكبير والصغير، والذكر والأنثى، وفتح المجال لهم في كل القنوات المتاحة من تلفاز وصحافة وغيرها لإيصال الكلمة الصادقة كلمة العدل والوسطية إلى كل بيت وإلى كل أحد إن شاء الله – تعالى-.
إن الناس إذا لم يجدوا الموجه الصادق والداعية المخلص والعالم الرباني والفهم الصحيح للدين والشباب على وجه الخصوص سيذهبون إلى هنا أو هناك بالأفكار والتصرفات إلى أمر لا تحمد عقباها فهل ننجح حقيقة في ذلك؟
نسأل الله الكريم أن يمن علينا جميعاً بالعودة الصادقة للدين، وأن يحمينا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه، وأن يجمع كلمة أئمة المسلمين وعلماء المسلمين وشعوب المسلمين على البر والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد