بسم الله الرحمن الرحيم
لئن كان الحديث عن التعصب والتقليد واتباع الهوى.... الخ قد أخذ حيزاً كبيراً من الكتابات الفقهية والأصولية والتربوية القديم منها والحديث، إلا أن ثمة مآزق يقع فيها الفقيه مرة من عند نفسه، ومرة من حيث لا يشعر، وهو أمام هذه وتلك بحاجة إلى أن يتذكر أو يخشى ليكون بقدر المسؤولية وبحجم الثقة، ولعلي هنا أشير إلى أمور ثلاثة منتهجا الرمز والإجمال، وعلى قارئي التفصيل والفك وإدراك معنى المعنى كما هو شأن مثل هذه المقولات.
الفقه والعقل.
الفقيه السياسي.
الفقيه والمجتمع.
هذه الثلاث هي – ولو من وجهة نظري – سبب التخلف الفقهي والغياب الفعلي لكثير من (الذين أوتوا العلم والإيمان).
الفقه والعقل:
جدل الفقيه مع العقل ليس حديث النشأة، ولست هنا أريد التعقيب له بقدر ما يهمني قراءة ظروف تلك النشأة، حيث تكاد تجمع كتب المقدمات الفقهية والأصولية على ذكر المدرستين (1) أهل الرأي (2) أهل الحديث، وتمضي تلك الكتب مستندة إلى كتب السير في ذكر الأحداث الجارية بين رواد المدرستين، ومن ذلك استغناء كل مدرسة عن الأخرى واستهجانها، وكان نتيجة الحال أن استقل العقل عن النقل فأصبح الفقيه بلا عقل والعاقل بلا فقه وسعد بذلك المنظمون لتلك المفارقة؟ وصرت تجد الفقيه يصنف العقل عدوا (عقلانيون هم) ولا أدل على ذلك من جعلهم الدليل العقلي مقابل الدليل الشرعي.
الوضع الذي يصححه فقيهنا ابن تيمية بقوله: (وأما كونه – الدليل – شرعياً فلا يقابل بكونه عقلياً، وإنما يقابل بكونه بدعياً إذ البدعة تقابل الشرعة... ثم الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً فإن كون الدليل شرعياً يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، وبراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون بالعقل أيضاً ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه فيكون شرعياً عقلياً) درء تعارض العقل والنقل (1/198)، وبمزيد إيضاح يقول (كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة) الفتاوى (1/6).
إن عزل العقل عن الفقه أدى إلى ممارسات في الفهم والتطبيق تضحك وتبكي ربما كانت مغمورة في بطون مصنفات الفقهاء، أما اليوم فهي تمثل ظاهرة في فتاوى طيارة لا محررة ولا مقرره لا سيما تلك الفتاوى المستحلبة (وجزى الله خيراً من أعان على نشرها)؟ أو في كتيبات أشبه ما تكون بـ(القص واللصق) حتى أدرك الآخر أن لا خوف ولا قلق من خطر اسمه (الفقه الإسلامي) يخشى أن يوقظ الفكر العام، بل أصبح العامي يستنكر تلك المفاهيم ولكن ما حيلته هل يرد؟ كيف ولحوم العلماء مسمومة وهم الموقعون عن رب العالمين؟
إن العقول تتفاوت في الفهم ونحن لا ننكر ذلك، ولكن المنكر هو في إقصاء العقل ومحاربته وعدم الأخذ بما يرقي مداركه وينير طريقه ويفك الجمود الذي لحقه وإن وراء هذه الإشكالية أسباب من أبرزها:
(1) قداسة ذات الفقيه فلا حوار معه ولا مداخلة، ومن ثم فهو غير قابل للنقد والمراجعة وهو بذلك يفتقد التجديد المعرفي.
(2) بعده عن الواقع المعاش [يأتي].
(3) ضعف في التأسيس فهو قد وجد نفسه فقيهاً بصناعة سياسية أو اجتماعية، الأمر الذي يجعله ممتنا لمن صنعه فليس لديه الجرأة في اجتهاد يخلخل الولاء أو ينزع المنصب أو يبعد الجمهور أو هكذا [يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].
الفقيه والسياسي:
وهو جدل قديم أيضاً، وقد دار الفقيه مع السياسي بين الاكتفاء والارتماء في غياب الوسطية.
فتجد فقيهاً مكتفياً يحذر من غشيان السلطان خشية الفتنة، وقد أنتج هذا الأخير عداء للسياسي لأنه يفسر السياسة بـ(القوة، البطش، الظلم) وهي مفاهيم خاطئة جعلت الفقيه لا يحسن قياس المسافة بينه وبين السياسي، وقد قاده ذلك إلى مواجهات هو في غنى عنها.
أما أن الفقيه لو أدرك أن (السياسة) هي التدبير للأصلح لعلم أنها عمل مشترك وخندق واحد، ولأجل فهم الفقيه هذا عاش السياسي لوحده مفتقداً نصح الفقيه أو مستغنياً عنه مستريحاً منه، لا سيما إذا كان الفقيه يعاني من عقدة (العقل) والسياسة عقل وتدبير فأين يمكن اللقاء إلا على موائد المناسبات.
والسؤال: من صنع الفكرة وأدار اللعبة؟
الفقيه والمجتمع:
التلاحم بينهما وثيق فبعضهما من الآخر، وعندما تحصل الفرقة والتباعد في اعتزال الفقيه لمجتمعه مريداً لذلك متذرعاً بالمشاغل تارة أو بفساد الزمان تارة أو... أو أن يكون التباعد بينهما بسبب شعور المجتمع بعدم جدوى الفقيه فهو مثالي في الطرح بعيد عن الواقعية يتمثل ذلك في فتياه وخطبه، يأخذ الناس بالعزائم ويأخذ لنفسه بالرخص كيف (والله يحب أن تؤتى رخصه).
إن هذه المسألة جد مهمة والإشكالية فيها واضحة في الواقع المعاش، فالناس لم يعودوا يرون فقهاءهم إلا على المنابر، وفي الإذاعة والتلفزة بينما الناس يريدون أن يروهم في أفراحهم وأتراحهم يطالبون لهم ويدفعون عنهم لا ليفتوهم فقط بل وحتى الفتوى -كما أسلفت- تأخذ بالتشديد بدل التيسير، وبهذا فأي شيء يربط الفقيه بالمجتمع، إن الفقيه الذي يريد أن ينكر، عليه أن يعرف، والذي يريد أن يصلح عليه أن يتواجد وعليه أن يدرك أن ممارساته ضد المجتمع (شعر أو غاب) ستؤدي إلى إقصائه عن الساحة التي سيتفرد بها من رسم خطة إبعاده، وسيعيش وحده ليس في غربة الدين ولكن في غربة القلق والنكد، أما غربة الدين التي يلجأ إليها البعض فليست كما يزعمون بل هي التي حولت سجن القلعة إلى واحة للدرس والكتابة والإنتاج الفكري، وهي التي قربت بين ابن تيمية ومجتمعه يقول عنه البزار [فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه يقبلها حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخبطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به، وهو مع هذا يعطي كلاً منهم نصيباً وافراً من السلام وغيره، وإذا رأى منكراً في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث فصلى عليه ثم يعود إلى مسجده، فلا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم، وكان مجلسه عاماً للكبير والصغير والجليل والحقير والحر والعبد والذكر والأنثى قد وسع على كل من يرد عليه من الناس يرى كل منهم في نفسه أن لم يكن أحد بقدره) الأعلام العلية (ص:41)، ويقول الذهبي : (وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبهº لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه ) العقود الدرية (ص:118).
إننا ننادي الفقيه إلى مراجعة ذاتية تكون نتائجها:
(1) إدراك لواقع مجتمعه إدراكاً نابعاً عن ممارسة وحضور لا يكتفي بما يملى عليه ويزين أو يشين له، ثم إنه إدراك شمولي في الديانة والاقتصاد والاجتماع والسياسة والتعليم.
(2) الواقعية في الطرح ولن تكون الواقعية إلا بفقه لطبيعة الشريعة ويسرها مع وعي بالواقع، ولعل مما يمثل للواقعية مقال لا حق بإذن الله حول مركزية المباح في خطاب الوحي، فالتيسير على الناس وتحبيب الشرع لهم وكسب قلوبهم من أعظم مقاصد الشريعة وحكمها.
(3) على الفقيه أن يدرك أن هناك من يخطط للمباعدة بينه وبين المجتمع بوسائل ذكية.
وبعد فتلك حروف تراد معانيها أسأل الله أن يفقهنا في دينه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد