بسم الله الرحمن الرحيم
هذه ثلاث وصايا عظيمة مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قَالها شيخُ المقرئين والمُحدثين، وحافظُ أهل الكوفة في زمانه، وأحد الستة الذين حفظوا العلم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -(1): سُليمانُ بنُ مِهرَان الأعمش وَمَن قرأ سيرته عَرَفَ إمامة هذا الرجل في العلم والعمل والزهد.
قال العِجليٌّ: «حَدّثني أبي قال: هاجت فتنةٌ بالكوفة فعَمِلَ الحَسَنُ بنُ الحُرّ طعاماً كثيراً ودعا قُرّاء أهل الكوفة، فكتبوا كتاباً يأمرون فيه بالكف، وينهون عن الفتنة، فدعوه فتكلم بثلاث كلمات فاستغنوا بهن عن قراءةِ ذلكَ الكتاب فَقَالَ: رَحِــمَ اللهُ امـــرأً «مَلَكَ لِسَانَهُ»(2)، «وَكفَّ يدَهُ»(3)، «وَعَالجَ مَا في صدرهِ»(4)، تَفَرَّقـواº فإنه كَانَ يُكـره طـول المجلس»(5).
وفي روايةٍ, أُخرى: «فَقالَ الأعمشُ: مَلَكَ لسانَه رجلٌ، وحَفِظَ نفسَه، وعَلِمَ ما في قلبه، إنّه كانَ يُقَال: إنه إذا طَالَ المجلسُ كان للشيطان فيه مطمعٌ. أحضر طعامَكَ».
إنّ الحديثَ عن الفتن وما ورد فيها من الآيات والأحاديث أخذ جانباً من عناية المحدثينº فقلما يخلو كتاب من كتب السنة ـ كصحيح البخاريّ، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي وغيرها كثير ـ من كتاب أو باب «الفتن»، قال الإمامُ البُخاريٌّ في صحيحهِ: «كتاب الفتن، باب ما جــاء في قـول الله ـ تعالى ـ: [وَاتَّقُوا فِتنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً] [الأنفال: 25]، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من الفتن».
ونحن في هذا الزمان ـ زمان الفتن ـ بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة في الفتن، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقه ما ينبغي عمله عِندَ الفتن في ضوء كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال عبد الرحمن بن أبزي: قلتُ لأبيّ بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان: أبا المنذر! ما المخرج؟ قال: كتابُ الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكِله إلى عالمه(6).
وكذا دراسة هدي صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسلكهم عند الفتن التي مرت بهم بدءاً من فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
قال أحمدُ بنُ حنبل: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين قال: «هاجت الفتنة وأصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عشرة آلافº فما خفَّ فيها منهم مئة، بل لم يبلغوا ثلاثين»(7).
وفي ظني أنَّ مراعاة تلك الوصايا الثلاث من أعظم الأسباب لحفظ المسلم من الولوج في تلك الفتن التي تجعل طالب العلم في حيرةٍ, واشتباه.
وبالمقابل تجد من لم يملك لسانه يقطع في أمور لو وردت على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر، واستخار الله فيها شهراً، وربما ترتب على هذه المسائل عدم كف اليد عن دماء المسلمين المحرمة، وانتهاك حرمة المسلم بالظنون والتخرصات.
ولو أنَّ كلَّ مسلم اشتغل بنفسه وعالج ما في صدره لوجد في ذلك شغلاً عن الخوض في الفتن.
ومما ينبغي التفطن له:
أنه ليس من ملك اللسان واعتزال الفتن عدم الرد على شبهات المبطلين واعتراضاتهم على أحكام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وليس من الخوض في الفتن كذلك:
- تقرير مشروعية الجهاد في سبيل الله، وأنه ذروة سنام الإسلام.
- وبيان وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- والتحذير من البدع والخرافات، والمذاهب الهدامة من العلمانية والحداثة وغيرهما.
بل إنَّ الكلام في هذه المسائل في هذا الزمان أصبح من أهم المهمات وأفضل الجهاد لما نرى من محاولات عالمية جادّة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة، وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافاة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام الآخر بزعمهم.
وإنّ من أخطر الأمور على النشء المسلم عدم المعرفة التامة بأحكام الإسلام في المسائل المتقدمة، وعدم تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة الصحيحة، فينبغي على الجميع العمل، وبذل الجهد والطاقة في توضيح المفاهيم السابقة، لينالوا شرف خدمة هذا الدين العظيم.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
---------------------------------------------------------
(1) قال علي بن المديني: «حفظ العلم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي والأعمش بالكوفة، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة». تاريخ بغداد (9/ 9).
(2) عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ «الفتن» باباً قال فيه: «باب كف اللسان في الفتنة» وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع. (ص 114).
قال ابن رجب: «وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا. إلى آخر الحديث، هذا يدلُ على أنَّ كفّ اللسانِ وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كلّه، وأنَّ من مَلَك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه». جامع العلوم والحكم (1/274).
(3) في سنن أبي داود (4/97رقم 4249)، ومسند أحمد (2/441) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من كف يده»، ورجاله ثقات، وقد اختلف في الحديث رفعاً ووقفاً، ورواية الرفع قوية.
وقد عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ «الفتن» باباً قال فيه: «من أحاديث النهي عن السعي في الفتنة» وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع. (ص 118).
(4) قال النوويٌّ في رياض الصالحين (ص310): «باب فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن، ونحوها عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العبادة في الهرج كهجرة إلي. رواه مسلم».
وقال في شرح صحيح مسلم: «المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أنّ الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد».
قال المناويٌّ: («العبادة في الهرج» أي وقت الفتن واختلاط الأمور، «كهجرة إليّ» في كثرة الثواب، أو يقال المهاجر في الأول كان قليلاً لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قالَ ابنُ العربي: وجهُ تمثيله بالهجرة أنَّ الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهلهº فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة وهو أحد أقسام الهجرة) فيض القدير (4/373).
(5) عرفة الثقات (1/433)، وانظر: العلل ومعرفة الرجال (2/384)، تاريخ مدينة دمشق (13/56).
(6) التاريخ الأوسط (1/64)، وإسناده صحيح.
(7) العلل ومعرفة الرجال (3/182)، وانظر: أخبار المدينة (2/281).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل» منهاج السنة (6/236).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد