بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن الطابع المميّز للمجتمع المسلم، هو أنه مجتمع مترابط، متضامن، متماسك، تنضبط مسيرةُ حياتِه بأحكام الشريعة الإسلامية، وتصلح أحواله بانتهاجه لمسلكها القويم، قد صِيغت شخصيتُه بالتربية الإسلامية، فانطبعت بخصائص هذه التربية. ولا يخدش هذه الصورةَ للمجتمع المسلم، انحرافُ بعض أفراده عن هذا الخط المستقيم، فالعبرة هنا بالمبادئ العامة وبالمنهج الثابت الراسخ الذي هو القاعدةُ الذهبيةُ للمجتمع المسلم الذي تصوغه التعاليم الإسلامية. وليس يعنينا هنا الوضع الراهن في بعض المجتمعات الإسلامية في عالم اليوم، فهو وضعٌ يعاني من خلل منهجي نتيجة ابتعاده عن احترام التعاليم الإسلامية. فنحن هنا إنما نتحدث عن الروح والجوهر، وعن المنهج والمبادئ التي تصنع المجتمع المسلم. وهو المنهج الصالح لكل زمان ومكان.
فهذه الخصائص المميّزة هي التي تُكسب المجتمعَ الإسلاميَّ مصادر المناعة والقدرة على التعامل مع عوامل التدافع الحضاري، والتكيّف مع مناخ كل بيئة، دون أن تُفقده عناصر القوة وسمات التميّز، أو تجرده من هويته الثقافية، أو تسلبه ذاتيتَه الحضارية.
وليست هذه الخصائص مغرقةً في المثالية غير قابلة للتفاعل مع الواقع، ولكنها خصائص موضوعيةٌ تَتَكَامَلُ فيها العقيدة الدينية والإرادة الإنسانية، تجسّدت في نماذج حيّة عرفها التاريخ الإنساني، سطعت فيه أنوار الحضارة الإسلامية، وعلا فيها شأنُ المسلمين في كل مجالات الحياة، وفي مختلف فروع العلم والمعرفة.
والمجتمع المسلم، هو مجتمع السلم والأمن، من النواحي كافة لأنه يتوخى العدل والأمان، ويجنح نحو السلم على جميع المستويات، دون أن يكون في ذلك إخلالٌ بمبدأ من مبادئ الشريعة، أو تفريطٌ في قاعدة من القواعد التي يقوم عليها هذا المجتمع.
إن التربية الإسلامية هي التي تصوغ المجتمع المسلم وتُنشئه تنشئةً متكاملة العناصر، لا يطغى فيها جانب على آخر، وإنما تَتَوَازَنُ فيها جميع القيم الإسلامية، للترابط الجذري القائم بين القيم الأخلاقية والسلوكية، وبين القيم السياسية والعملية، بين تهذيب الروح وصقل الوجدان وترقيق الشعور وتقويم السلوك، وبين ترشيد الممارسة العملية لهذه القيم في الواقع المعيش على مستوى تدبير الأمور العامة، على تعدّد مراتب هذا التدبير.
قيم المساواة والعدل الاجتماعي :
لقد وضع الإسلام الأسس المبدئية للمساواة بين البشر، انطلاقاً من تقرير وحدة الأصل الإنساني، فحقّق بذلك أول مساواة في التاريخ البشري، تَتَكَافَأُ فيها الحقوقُ والواجبات، وينتفي معها التفاضل والتمايز بين الناس على أساس من الأسس. قال تعالى: {ياأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}
وترتَّب على تقرير مبدأ المساواة، كفالةُ الحرية للجميع، بما في ذلك حرية الاعتقاد الديني، أو ما يُصطلح عليه بالحرية الدينية. قال تعالى:{لا إكراه في الدين}
ويقول أحد مفكري الإسلام في هذا العصر، إن الحرية الدينية (اختراع إسلامي)، فلم يُعرف في ظل دين من الأديان أن عُني بتقرير الحرية الدينية لمخالفيه، وأن رُفض الإكراه في الدين بأي صورة من الصور، واعتُبر الإيمان هو الذي يأتي عن طريق الاقتناع والاختيار الحر.
فأساس التفاضل في المجتمع المسلم، هو التقوى، وهي مصطلح إسلاميّ تعني العمل الصالح الذي يُراد به وجه اللَّه، وهو المعنى الشامل العميق الذي يجمع كل الأعمال والمصالح العامة التي تخدم المجتمع في المجالات جميعاً، ويحقق المنافع والمقاصد الشريفة.
والعدل الاجتماعي أصلٌ أصيلٌ في الشريعة الإسلامية، وهو من المقاصد العليا للشريعة. فالعدل هو أساس الملك، وهو أيضاً أساسُ الدولة الإسلامية. والعدل الاجتماعي يرتبط في المنظور الإسلامي، بالعدل القانوني، وبالعدل السياسي، ارتباطاً متيناً، فلا عدالة اجتماعية في كنف نظام سياسي لا تتوفر له القواعد السليمة والشروط الجوهرية. ولذلك استقر في وجدان الإنسان المسلم في كل عصور التاريخ، أن المجتمع المسلم، هو ذلك المجتمع الذي تسوده قيمُ المساواة والعدل الاجتماعي، عملاً بالمبادئ الإسلامية الحقة.
وهذه القيم هي من مقوّمات التربية السياسية في الإسلام، وهي إلى ذلك، من مبادئ السياسة من المنظور الإسلامي.
وإذا تعمقنا في مفاهيم المساواة والعدل الاجتماعي في الإسلام، وقارناها بالمفاهيم الوضعية التي قامت عليها مبادئ القانون الدولي، نجد أن حقائق التاريخ، تؤكد بما لاشك فيه، أن الدين الإسلامي، كان أسبق إلى تقرير مبدأ المساواة وحق الإنسان في العدل الاجتماعي، واعتبار هذا الحق جزءاً من منظومة الحقوق التي كفلها الإسلام للبشر كافة.
وليس القصد هنا في هذا المقام، أن أفتح صحائف التاريخ الحديث والمعاصر لأعقد المقارنات بين مبادئ الحق والعدل والمساواة في التعاليم الإسلامية، وبين مقابلاتها في المواثيق والإعلانات الدولية. ولكنني حرصت على أن أسجّل هنا، زيادةً في البيان، أن المجتمع المسلم، في كنف الدولة الإسلامية، هو مجتمع الحقوق والواجبات، إيماناً والتزاماً، وأن حق الحياة، وحق التملّك، وحق الكفاية من العيش، وحق الأمن على الدين و النفس والعرض والمال والنسل، هي حقوق في نظر التشريع الإسلامي، من المقاصد العليا، التي أنزل اللَّه الشريعةَ للمحافظة عليها، ولا يجوز لأحد أن يفرط فيها. وواجب الدولة المسلمة أن تعمل على أن تحفظ لكل فرد يعيش في كنفها ــ مسلماً كان أو غير مسلم ــ هذه الحقوق، في ظل العدل والمساواة والأمن الاجتماعي.
موقف الإسلام من الغلوّ :
لقد ذمَّ الإسلام الغلوّ حتى في الدين، واعتبره سبيلاً إلى الانحراف والشطط، ووسيلةً إلى إضعاف المجتمع المسلم، وتمزيق نسيجه الاجتماعي وكيانه السياسي.
والإسلام باعتبار أنه الرسالة السماوية الخاتمة، الهادية إلى أقوم السبل للحياة السّوية، يرى أن الغلوّ في كل شيء، مجلبةٌ للشرور وللمظالم وللانحرافات ولكل الموبقات لأن الغلوّ يؤدي إلى التطرف الذي هو نقيضُ الطبيعة البشرية السوية، وإخلالٌ بالموازين التي أقامها اللَّه للكون، على وجه العموم.
وكما يكون الغلوّ والتطرف في الدين، يكونان أيضاً في الفكر والتصوّر، وفي الممارسة والتطبيق. لذلك فإن الاعتدال محمودٌ ومطلوبٌ في كل الأحوال، ومن ثم كان المنهج الإسلامي، منهجَ الاعتدال والوَسَطية. وفي اللغة العربية، ينتهي الاعتدال، والعدل، والعدالة، والمعادلة، إلى معنى أصلي واحد. ففي الاعتدال كلٌّ العدل. والمجتمع المسلم مجتمع معتدل لأنه مجتمع عادل. وهذا يناقض تماماً ما يروج عن المجتمعات الإسلامية من أنها تجنح إلى التطرف في كل شأن من شؤونها، أو أن الإسلام دين التطرف، فهذا محض ادعاء، ومطلق افتراء. فلا الإسلام دين التطرف، ولا المجتمع المسلم مجتمع تطرف، ولا العالم الإسلامي يجنح إلى التطرف. وإذا كانت ثمة ظاهرة محدودة النطاق، تتمثّل في حالات فردية هنا أو هناك، فليس من العدل، ولا من العقل والحكمة، ولا من الموضوعية العلمية، أن ننسب التطرفَ إلى الإسلام، وإلى المجتمعات الإسلامية، جملةً وتفصيلاً.
المصدر: كتاب التـربية السياسية في الإسلام للدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 3 )
المساواة
-لولو
17:07:29 2016-10-25
بليب
08:34:46 2016-05-05
مراجع
23:15:11 2015-06-25