العقل المسلم..ومعادلة ابن الخطاب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من أهم الأولويات اليوم المساهمة في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي، وإعادة بناء عالم الأفكار، والدعوة إلى وضع ملامح تخطيط ثقافي إسلامي (استراتيجية ثقافية) يُعيد بناء التصاميم الذهنية الإسلامية ويوفر الطاقات ويهندسها، ويضعها في المجال المُجدي، لتنتهي بذلك مرحلة الرسم بالفراغ، التي ورثناها عن مراحل التخلف، وساهم في تكريسها الغزو الثقافي، الذي لا نزال نُعاني من آثاره على أكثر المستويات، بالرغم من الدعاوى الكثيرة التي تريد أن تُثبت عكس ذلك، ويبقى المطلوب دائماً مزيداً من إلقاء الأضواء الإضافية على جوانب المشكلة الثقافية، للوصول إلى إعادة صياغة وتشكيل العقل المسلم، أو إعادة ترتيب العقل العام لِمُسلِمِ اليوم، وتخليصه من الجزئية المتناثرة، وعجزه عن مواجهة مشكلاته وتحدياته الداخلية منها والخارجية على حد سواء، على ضوء رؤية إسلامية ذات إخلاص وصواب، ودراية وفقه، فيها طرفاً المعادلة التي استحال علينا حلها طيلة عصر التخلف والسقوط الحضاري والتي استعاذ منها سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، حيث قال: \"اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي\".

لذلك كان لا بد من أن نحل المعادلة فنصل إلى مرحلة جلد التقي وعجز الفاجر، بعيداً عن المواقف التصرفات الانفعالية الخطابية، التي تحرك العاطفة ولا ترشد العقل، وتعتمد التهويل والمبالغة، ولا تخدم القضية الإسلامية، بل على العكس قد تساهم مساهمة سلبية غير مقصودة في تخلف المسلمين.

إن محاولة إعادة ترتيب العقل المسلم، أو إعادة تشكيله أو صياغته، ومنحه القدرة على التخلص من بعض القيود والأسوار، قضية تجد في طريقها الكثير من الصعوبات والركام الذي قد يلبس الأمور ويغيب الرؤية الصحيحة للأشياء، والقدرة على إبصارها ومن ثم تصنيفها، إنها تتعلق بصميم المشكلة الثقافية التي نعاني منها بعد أن زرعت في نفوسنا القابلية لها، وتواضعت عليها القرون.

لذلك كان لا بد من المعالجة المنهجية الحكيمة المتأنية الناضجة، ولا بد من تناول القضية من أكثر من طرف وإلقاء أكثر من ضوء إضافي عليها، واستعمال أكثر من وسيلة، والصبر والاحتمال لما يمكن أن يحدث من خطأ في المقايسة والموازنة، ومن عجز في الإبصار وعثرات على الطريق.

ولكن مع ذلك تبقى القضية ملحة بعد هذا الواقع الثقافي الهجين الذي انتهينا إليه، والذي حمل إلينا ما يفيد وما لا يفيد، ما لنا وما ليس لنا واختلطت فيه المفاهيم.

لقد أصبحت الحاجة ملحة لعملية التنقية الثقافية، وأصبحنا أحوج من أي وقت مضى إلى الذين يحملون عقل المهندس، ومبضع الطبيب. وحرقة الوالدة، على مستوى الفكر والثقافة، ليقوم بعملية الإخلاء والإملاء، أو عملية الهدم المسبوقة بمخطط واضح ومدروس لعملية البناء لأن بعض الناس يحسنون الهدم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولأنه يتناسب مع طبائعهم وانفعالاتهم واستعجالهم لكنهم يعجزون ولا يحتملون البناء، لأن البناء يستدعي التأني والصبر والزمن والنضج، وكلها متطلبات لا تقتضيها عملية الهدم. وتبقى المشكلة في بناء العقلية القادرة على البناء وفي تصويب مسار هذه القدرة.

ونحن نعترف أن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوض وكسور وتقطيع، فصده عن المضي إلى غايته، وحال بينه وبين أداء رسالته، لا يمكن أن يعالج بكتاب أو مقال أو محاضرة أو بحث، وإنما يتعلق الموضوع بصميم المشكلة الثقافية، والمناخ الثقافي أو عالم الأفكار، الذي يشكل المحضن الصحي والضروري لإعادة تشكيل العقل وتربيته ومنحه القدرة على العطاء والحماية من الإنكار من هذا نعاود القول:

بأنه لا بد من أن تأتي المعالجة طويلة النفس، دائبة ومستمرة، تعطي من الزمن والمحاولة ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة، ورسم المنهج الصحيح وتعميق أبعاده، ومتابعة ذلك بأكثر من وسيلة ليتمثله الفرد المسلم فتحصل النقلة المطلوبة ونسترد المواقع المفقودة، ولا نخدع أنفسنا، أو نخادع بالفجر الكاذب الذي يعمي على كثير منا حقيقة النور، وسلامة الرؤية في تحقيق نصر موهوم.

إن العقل الذي لا يتحقق بالرؤية الشمولية الكاملة الترتيب لا يمكنه لانعدام الرؤية الدقيقة لسلم المشكلات التي تواجه عالم المسلمين، وبالتالي فلا يمكن له القيام بعملية \" البرمجة \" ولا يمتلك القدرة على التصنيف وإعطاء كل مشكلة علامتها ومكانها الذي تستحق والطاقة التي تحتاج، كما أنه لا يمتلك المقدرة على التمييز بين آثار المشكلات التي تنجم عنها وأسبابها التي أوجدتها، وأن معالجة الآثار تعني مزيداً من الارتكاس ومزيداً من هدر الطاقاتº فلابد من اكتشاف الأسباب والعلل ومعالجة هذه الأسباب، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الكثير من المشكلات الفرعية أو الجزئية مظهراً من مظاهر المشكلة العامة، وأن هذه المشكلات الفرعية سوف تغيب عن عالم المسلمين إذا أحسنّا تحديد أبعاد المشكلة العامة وبالتالي أحسنّا معالجتها.

إن دعوتنا إلى إعادة صياغة العقل المسلم أو الوصول إلى العقل المرتب لمسلم اليوم هي دعوة مزدوجة في حقيقة الأمر أو ذات بعدين رئيسين:

 

01 تصحيح التصور: وذلك بالقدرة على رؤية الخطوط الإسلامية والمسارات الإسلامية متواصلة متكاملة متوازية لا يصطدم بعضها بالآخر لتأخذ بعدها بضبط وربط، والقدرة على تكوين العقلية التي تمتلك أبجديات الثقافة الإسلامية فتحسن القراءة الإسلامية التي تستطيع من خلالها أن تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيراً إسلامياً، وتصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولا تقع فريسة للتفسيرات غير الإسلامية، كما أنها لا تبقى مهوشة غير قادرة على التوازن والاعتدال.

 

02 تخليص العقل: من التركيز على النظرة الجزئية، لأن التركيز عليها يؤدي إلى آفات عقلية ليس أقلها العجز والانحسار، كما ويؤدي إلى تضخيم دور بعض الفروع الجزئيات الأمر الذي يقتل الإبداع، ويصيب قدرة العطاء عند الإنسان، ويوقع في التقليد ويحرم صاحبه من الإفادة من جهود الآخرين، سواء أكان ذلك بالتعامل مع التراث أم القدرة على استلهام الكتاب والسنة لمواجهة حاجات العصر المتجددة.

 

ونحن لا نريد هنا بمطاردتنا لأصحاب النظرة الجزئية المولعين بالتبعيض، الملتزمين بالأبعاض أن ندعو إلى الإحاطة بالمعرفة العلمية وتمديدها في عصر التخصيصات الجزئية والعجز الفردي عن الاستيعاب والأداء الفردي الشامل والمجدي.

وإنما الذي نريد له أن يكون واضحاً أن الكلام هنا في مجال البنية الثقافية، وهي أمر آخر لا تشكل المعرفة العلمية الأكاديمية إلا حيزاً بسيطاً منه على ضرورته وأهميته.

لذلك نرى أنه لا بد من ثقافة عامة، ونظرة شمولية وعقل مرتب متوازن قادر على النظرة العامة إلى جانب التخصص العلمي ببعض الجوانبº فالعلم شيء والثقافة التي تستطيع توظيف هذا العلم والإفادة منه شيء آخر.

 

ويمكن لنا أن نأتي بمثال على ذلك:

إن العالم اليهودي الذي اخترع مادة متفجرة جاءت كثمرة لتخصصه العلمي، كان إلى جانب هذا التخصص العلمي الدقيق يتمتع بثقافة توراتية ورؤية دينية توجه ملكاته وتوظف تخصصاته للعمل على تحقيقها، وذلك في الوصول إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل، إنه لم يكن عاجزاً عن توظيف مخترعه العلمي من خلال تلك الثقافة، لقد فرض على الحلفاء في الحرب العالمية أنه لن يبوح لهم بسر المخترع الذي يمكنهم من النصر ما لم يأخذ عليهم العهد في تأييد حق اليهود في فلسطينº وهذا الذي كان!، وقدم هذا العالم لأبناء دينه ما لم يستطع تقديمه جيش من الجهلاء أو العلماء الفاقدين للبصيرة والثقافة، والذين لا تزيد علومهم عن أن تكون نسخاً جديدة مما قرؤوا أو معاجم جامدة في المكتبة!.

أين هذا من بعض مسلمي اليوم الذي جاءت مكوناتهم الثقافية ثمرة للسقوط الحضاري والتخلف الثقافي والعجز العقلي؟! حيث يرون بأن أمر الدعوة إلى الله يتعارض مع متابعة التخصص العلمي فيدَعون الجامعات وقد يكونون في السنوات الأخيرة ليتفرغوا بزعمهم إلى أمور نشر الدعوة الإسلامية، وكأن الجهل وعدم النبوغ العلمي أصبح في نظرهم ضربة لازب لنجاح أمر الدعوة الإسلامية!!.

أليست هذه حالة محزنة وثقافة محزنة وواقع أليم؟!.

 

-----------------------------------------------

* عن مقدمته لكتاب: (حول تشكيل العقل المسلم).

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply