بسم الله الرحمن الرحيم
التربية عمليةٌ موجودة منذ أوجد الله الإنسان على الأرض. فلا غرابة أن تتضمّن مختلفُ الثقافات خبرات تربوية، منذ أيام الثقافة اليونانية، وحتى يومنا هذا.
وفي الثقافة الإسلامية، سواء في مصدريها الأصيلين: الكتاب والسنة، أو في أفكار العلماء والمربين المسلمين وتجاربهم على مرّ العصور، نظرات ونظريات تربوية كثيرة وثمينة، تدور حول أهمية سن الطفولة، ودور الأسرة في التنشئة، ومسائل الثواب والعقاب والحوار والقدوة والدوافع...
وفي القرن الأخير من عمر الحياة البشرية، أصبحت التربية علماً مستقلاً، بل علوماً، وظهرت فيها نظريات تلتقي مع النظريات القديمة وتختلف، كما تلتقي فيما بينها وتختلف.
ومن النظريات التربوية الحديثة نسبياً، نظرية الفروق الفردية، التي تقوم على فكرة أن لكل فرد خصائصه التي تجعله متميزاً من الآخرين، وأن وجود هذه الفروق ينبغي أن تترتب عليه آثار في المناهج والوسائل والأساليب التربوية... أو ما يسمى بتفريد التعليم.
ومثل هذه النظرية لا يمكن استيعابه في كتاب صغير، فضلاً عن مقال قصير، لذلك فقصارى ما ترمي إليه هذه السطور لفت الانتباه إلى أهمية هذه النظرية، وإلقاء الضوء على عناصرها، ليعرف المهتمون بالتربية حقيقة هذه النظرية، ويتولد عندهم الحافز للقراءة عنها، ثم لمراعاتها في عملهم التربوي.
***
يختلف الأفراد فيما بينهم في القدرات والصفات البدنيّة، فأطوال قاماتهم، وألوان بشرتهم، وقواهم العضلية، وحدّة أسماعهم وأبصارهم... كلها متفاوتة.
ويختلفون في قدراتهم العقلية من حيث قوةُ الذاكرةº والقدرةُ على الإدراك والاستنباط والتحليل وتعلّم الجديد من العلوم...
ويختلفون في صفاتهم النفسية، ففيهم المتريث والمتعجّل، والحليم والسفيه، والجادّ والعابث، والمسامح والحقود، والمعتدل والمتطرف...
ولذلك كله يختلفون في مواهبهم وهواياتهم واتجاهاتهم.
وهذه الاختلافات، بأطيافها الواسعة، تقتضي أن يراعيها المربي في التعامل مع أبنائه وتلامذته.
لكن هذا الكلام الذي قد يبدو بديهياً، يطرح مجموعة من الأسئلة، نعرض ههنا لبعضها:
فالسؤال الأول: هل ينبغي إذاً أن تكون عملية التربية والتعليم فردية أم جماعية؟!
والجواب: إنه ينبغي أن تكون جماعية، ليس لأن الجهد الجماعي أكثر اقتصاداً فحسب، بل لأن الجو التربوي الجماعي هو الأجدى ثمرة. فالفرد، في معظم الأحيان، يتقبل التعليم والتوجيه والتسديد، من ضمن مجموعة تشاركه هذه العملية، أكثر مما يتقبل ذلك إذا كان بمفرده. فأفراد المجموعة تتساند وتتعاون وتتكافل وتتنافس... مما يهيئ عوامل النجاح للعملية.
ثم إن من الجوانب المطلوبة في التربية تنمية الروح الجماعية والخبرة الاجتماعية، كقيم التعاون والحب والإخاء والتعاطف وتقبل الرأي الآخر...
بل إن بعض أجزاء العملية التربوية لا تكاد تمارس إلا في جو جماعي، كمعظم الأنشطة الاجتماعية والرياضية والفنية والأدبية...
فسواء رُوعِيَت الفروق الفردية كما هو هدف المقال أو لم تراعَ، فإن الجوَّ الاجتماعيَّ مطلوبٌ. لكن مراعاتها تعني أن يسير التلميذ في سرعة تعلّمه، وفي تقويمه، بشكل منفرد.
وفي الكتاتيب التي كان الطفل في بلادنا يتعلم فيها تلاوة القرآن الكريم وتجويده ومبادئ القراءة والكتابة والحساب … كان التعليم يحافظ على الروح الجماعية، كما يراعي مفهوم الفروق الفردية.
بل إن فكرة \"الإجازة\" التي كان يعطيها \"الشيخ\" لتلميذه في علمٍ, من العلوم كانت تراعي هذا المفهوم.
وإذاً فإن هذا المفهوم معروفاً ومراعىً في بعض طرق التعليم منذ أجيالٍ, سابقة، ثم تلاشى في التعليم المدرسي، أو ضَعُفَ. وصار المطلوب ابتكار طرقٍ, توائم بين هذا التعليم الذي يستوعب شرائح هائلةً من الأجيال، وبين ملاحظة الفروق الفردية.
والسؤال الثاني: هل ينبغي أن تهدف التربية إلى التماثل، بأن تعالج جوانب الضعف والقصور في كل فرد ليصبح كالآخرين؟ أم تهدف إلى التباين فتنمّى جوانب القوة والتفوق للوصول إلى أفراد فائقي القوة، كأبطال وعباقرة في هذه الجوانب، وإن كانوا متخلّفين في جوانب أخرى؟!
والجواب: إن كلاً من التماثل والتباين مطلوب.
فالتماثل مطلوب بمقدار، من أجل سلامة الفرد نفسه ومن أجل المحافظة على تماسك المجتمع، وتحقيق القدر المشترك من قيم المجتمع. فكل الأفراد مطالَبون بالإيمان بالله واليوم الآخر، والقيام بالفرائض واجتناب المحرمات، والتحلي بالفضائل الأولية كالصدق والأمانة...
والتباين مطلوب من أجل تنمية الإمكانات الفردية. فتطوير حياة الفرد والمجتمع لا يتم إلا باكتشاف الاستعدادات واستثارتها وتنميتها. ففي مجتمع الصحابة، مثلاً: كان من الضروري تنمية مقدرة عبد الله بن مسعود الفقهية، ومقدرة خالد بن الوليد العسكرية، ومقدرة علي بن أبي طالب في القضاء... وكما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا\" رواه البخاري ومسلم
وكما يقول أيضاً - صلى الله عليه وسلم -: \"اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له\" رواه البخاري ومسلم
فإذا كان البشر بجملتهم قد خُلقوا للعبادة، فإن كلاً منهم قد خُلق لدور يختلف عن دور صاحبه.
يجب تأكيد القدر الضروري من التماثل، كما يجب تعميق التباين بما لا يتعارض مع مقتضيات التماثل.
والسؤال الثالث: ألا تقتضي مراعاة الفروق الفردية أن تُحترم الخصائص الفردية، وتطلق الحرية الشخصية؟!
والجواب على هذا السؤال يشبه الجواب على السؤال السابق، فاحترام الخصائص الفردية، وإتاحة الفرصة لكل فرد كي يمارس هواياته وينمّي قدراته... أمر مهم في هذا الشأن، على ما يقتضيه من دعم مادي ومعنوي، وتغاضٍ, عن بعض الإهمال والتخريب (كما في إجراء التجارب العلمية)... لكن ذلك مقيّد بالقيم العليا للمجتمع، كالإيمان بالله- تعالى -، واحترام المقدسات، ومراعاة أمهات الفضائل.
وهنا لا بد أن يكون واضحاً لدى المربين أولاً، ولدى السلطات العليا في المجتمع، أن دائرة الممنوعات لا يجوز أن تتسع حتى تخنق الطاقات والمواهب. ولا يجوز أن تُلغى، أو تفصّل على رغبة الحاكم، فيكون الشذوذ الأخلاقي مباحاً باسم الانفتاح والتحرر، ويكون انتقاد سياسة الحاكم محظوراً باسم المحافظة على \"الأمن\"!!
ولا يجوز أن يكون التحفظ على ارتكاب الشبهة، كالتحفظ على ارتكاب الحرام المتفق على تحريمه، ولا أن تكون المطالبة بفعل المندوب بقوة المطالبة بفعل الواجب.
والسؤال الرابع: ما الآلية الواقعية في مراعاة الفروق الفردية، وفق الاعتبارات المذكورة آنفاً؟! والجواب هنا واسع بحيث لا يمكن الإحاطة به في سطور، لذا سنكتفي بذكر رؤوس موضوعاته.
أولاً: لا يجوز الاكتفاء بإصدار نشرة عابرة أو توجيه رسمي، بل يحتاج الأمر إلى تغييرات حقيقية في العملية التربوية والتعليمية كلها.
ثانياً: إعداد المربي هو الأساس في نجاح العملية التربوية، لا سيما في شأن الفروق الفردية.
فالمربي الناجح هو الذي يعرف قدرات التلاميذ ومجالات طموحهم وميولهم وحاجاتهم وخصائص نموهم... إلى جانب معرفته بالقيم العليا التي يجب توجيههم وفقها، والمعارف الأساسية التي يجب تزويدهم بها... وأن يكون متفاعلاً مع عمله، مدركاً أهمية الدور الذي يقوم به، وأن يكون متمرساً بالأساليب التربوية ليتخير منها ما يناسب كل موقف، بل يبتكر منها ما يوحيه إليه ذلك الموقف.
ثالثاً: إيجاد مدارس أهلية أو حكومية (للمتميزين أو الموهوبين أو الأوائل) يُعدٌّ واحداً من الإجراءات الصحيحة، لكنه لا يكفي.
رابعاً: من إجراءات المراعاة للفروق الفردية: إعفاء المتفوق في مادة دراسية من بعض الامتحانات، أو تمكينه من اجتياز المرحلة الدراسية في فترة أقل، والنظر في أحوال الطلاب المتخلفين دراسياً وإعدادُهم لمجالات مناسبة لهم في الحياة.
خامساً: ومن الإجراءات ما يسمى بخطة التقدم الثنائي، بأن يوجد في كل مرحلة دراسية مواد مشتركة يدرسها جميع التلاميذ، ومواد اختيارية يختار الطالب منها ما يناسبه. وهذه المواد الاختيارية يمكن أن تتم عبر تقسيم طلاب الصف الواحد إلى مجموعات، أو عبر مجموعات غير صفّية. فمثلاً يمكن أن ينص النظام على استحقاق التلميذ لاجتياز المرحلة الإعدادية إذا نجح في المواد الأساسية المحددة، وفي خمس مواد من بين ثمانية مواد اختيارية!
سادساً: ومنها فرز الطلاب إلى مجموعات متجانسة فتتلقى كل مجموعة منهاجاً مناسباً يجمع بين الأساسيات المشتركة والمواد المناسبة لكفاءات المجموعة وهواياتها... ويكون تناول معظم مواد المنهاج عبر الأنشطة والمشروعات التربوية والتعليمية.
سابعاً: ومنها طريقة الوحدات الدراسية، بأن يقسم المنهاج إلى أجزاء صغيرة، ثم تجمّع هذه الأجزاء حول محاور توفّق بين اهتمامات التلاميذ وقيم المجتمع، وفلسفة التعليم العليا. ثم يتقدم كل تلميذ من وحدة إلى أخرى، ويكون ناجحاً في نهاية كل مرحلة إذا أنجز عدداً من هذه الوحدات. ويراعى بالضرورة أن توازن كل وحدة بين الأساسيات والجوانب الاختيارية.
ثامناً: أيّاً كانت الإجراءات فإن الهدف العام للتربية، ثم الأهداف الجزئية والخاصة يجب أن تكون واضحة في ذهن المخطّط وفي ذهن المربي ليَكون محتوى المنهاج وطرائق تطبيقه مناسبة لتحقيق تلك الأهداف.
تاسعاً: إن التخطيط الجيد للتدريس، المراعي للفروق الفردية، يجب أن يتيح للتلاميذ العمل على ثلاثة مستويات، مستوى فردي في المطالعة والتعامل مع الحاسوب، ومستوى المجموعات الصغيرة في ممارسة بعض الأنشطة وإعداد بعض الدراسات (المناسبة لكل مرحلة دراسية)، ومستوى المجموعات الكبيرة التي تعمل على التزويد بالمعارف الأساسية والمشتركة، وغرس القيم العليا للمجتمع.
عاشراً: من الأنشطة المناسبة لمراعاة الفروق الفردية وتوجيهها:
- الأسئلة والمناقشة التي يقدمها المربي أو التلاميذ أو زائر متخصص.
- القراءة والمراجعة في الكتب المتخصصة والدوريات والإنترنت والمعاجم ودوائر المعارف.
- البحوث الميدانية كالاستفتاءات والمقابلات الشخصية، وإعداد التقارير.
- إجراء التجارب وفحص العينات.
- إقامة معرض مدرسي.
- الرحلات.
- الأفلام التعليمية والتسجيلات الصوتية.
- تقديم التمثيليات.
- إصدار مجلة حائط.
ونعود فنؤكد أن مثل هذا المقال لا يغني عن التعمق في الموضوع عبر كتب موسّعة تناولت مسألة الفروق الفردية وتفريد التعليم، بالتفصيل.
كما نشير إلى أن هذه النظرية كما تطبق في المدارس، تصلح كذلك في المجموعات التربوية الخاصة.
وعماد النجاح في ذلك كله هو الموجه والمدرّس والمعلّم... المؤهل.
وأخيراً فإن الإجراءات التي ذكرناها لمراعاة التفريد ليست مجرّد \"تحسينات\" وتعديلات على المناهج وطرق التعليم، بصورتها القائمة، وإنما هي مناهج جديدة ومحاور لتوجّهاتً كاملة.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد