بسم الله الرحمن الرحيم
هل يكتب الكاتب ليتنفّس؟ أم يكتب ليحدث تغييراً فيمن حوله؟ أم يكتب ليؤثر في رأي قارئه؟ أم يكتب ليتكسّب؟ أم يكتب ليتسلّى؟ أم يكتب ليضيف شيئاً إلى الحياة؟ أم يكتب ليُقال: كاتب؟
تلك توجهات حقيقية تتوزع أهواء الكُتّاب، وكل كاتب يدندن على ليلاه، ولكني أظن أن هناك شيئاً يجمع كل أو معظم هؤلاء الكتاب الذين فرّقتهم أهدافهمº هو القارئ الإيجابيº فهو طلبتهم جميعاً، فما كتب الكاتب إلا ليُقرأ، مهما كانت غايته النهائية من الكتابةº سواء حمل الأثر الذي تتركه القراءة في الفرد والمجتمع، أم لم يحمل.
القارئ الإيجابي: أعني به ذلك الذي يتفاعل مع ما يقرأ، فيحس بعواطف الكاتب وكأنها تنبعث من فؤاده هو، ويعيش أفكاره وكأنه فتَّقها معه، أي إنه يبدع المقالة من جديد، بعد أن تلوّنت بألوانه الشخصية، فأصبحت تمثل قضيته الخاصة جداًº فإذا به يحوّلها إلى مادة حديثه في بيته و عمله، أو بين صُحبته، بل ربما نسخها وأهداها، وربما أرسلها بريداً إلكترونياً إلى بعض خلصائه، وربما نشرها ـ دون إذن صاحبها ـ في مواقع عنكبوتية عديدةº وكأنه هو كاتبها، فهو يتمنى أن يقرأ الناس كلهم ما كتب.
القارئ الإيجابي: هو الذي يقرأ النص بعين هادئة، بصيرة، ناقدةº ولكن كما يفهم النقاد النقد، أنه ذلك الفن الذي يمكّن من امتلك أدواته أن يتملّى مضمون النص وشكله، وروحه وتوجهه، وخلفياته ودوافعه، وطموحاته وخيالاته، فيجعل همه اكتشاف مواطن الجمالº ليسلط الأضواء عليها، فيساهم في بناء الذوق العام، ويزيد من رصيد الإنسانية في الجانب الأنضر، والأعلى. فإذا انتهت رحلته الرائدة، وقبل أن يحط عصا السفر الممتع، يلفت نظر الكاتب إلى جوانب القصور، مذكراً بأن ما قال لا يمثل سوى وجهة نظره الشخصية البحتة، التي يراها صواباً، ولكنها تحتمل أن تكون خطأ.
القارئ الإيجابي: هو الذي يوصل صوته إلى الكاتب، فهو يسارع إلى كشف موقفه مما قرأ للكاتبº بريداً إلكترونياً، أو مهاتفة، أو حتى رسالة جوال. هذا الموقف إما تأييداً، أو معارضة، أو مجرد عواطف أحس بها تتفتح في حدائق ضلوعه، فأرسل أريجها لمن استطاع أن يبعثها في نفسه، أو يوقظها، أو ربما يوجدها.
كل كاتب..يتمنى أن يعرف المدى الذي وصلت إليه مقالته في نفوس الناس، هل تقبّلوا فكرته، هل هناك من تبناها، هل هزَّت روح مسؤول فجعلها انطلاقة مشروع ينفع الناس، أو يطوّر أداءه؟
هل استطاعت هذه المقالة أن تضع إنساناً ما أمام أخطائه مباشرة دون رتوش، فيصغي، ويعترف، ثم يبدأ العمل على التخلص منها؟
هل عبرت هذه الكلمات عن أحاسيس مجموعة من القراء، وفرّجت عن مكبوتاتهمº حتى قال قائلهم: هذا ما أردت أن أعبر عنه..لقد غرف الكاتب من صدري، وكشف عن همي، وقال الذي لم أستطع أن أقوله.
ولكن أين القارئ الذي يقطف المقالة من وجه الصحيفة، ثم يضعها في جيبهº ليخرجها بين الفينة والفينة.. يقرؤها يتأمّلهاº لأنه وجد فيها مطلباً نفسياً، أو لأنها تمثل له إجابة لسؤال طالما بحث عنها.
لماذا يتجاهل بعض القرّاء هذا النزيف العاطفي والفكري الذي تسميه الصحافة مقالات، إلى درجة أنها تتحوّل إلى سفرة طعام، أو غطاء نافذة، أو تُساق كبقايا الذبيحة بعد سلخها نحو مصيرها المر؟!
القارئ الرائع: هو الذي يقدر القطرات المنهلة على الورق.. كدموع الرجال.. ودماء الشهيد.
القارئ المتميز: هو الذي يفخر به كل كاتب، هو الذي يضيف إلى المقالة بالقراءة الإبداعية الواعية، التي لا تعني أبداً التلقي السلبي، المصدق لكل ما يُطرح وكأنه قرآن منزل، ولا تعني ـ كذلك ـ التلقي العدواني، الذي يبحث صاحبه عن العيوب، والمثالب، والهنات، والزلات فقطº ليصنع منها مأدبة تليق بالذباب، الذي ينصرف عن الجمال إلى القبح، وعن الطيب إلى الخبيث.
القارئ المبدع: هو الذي يلتقط من المقالة عشرات الأفكار الجديدة التي يصلح كل منها أن يكون مقالة خاصة، أو رسالة علمية، أو بحثاً إنسانياً، أو كتاباً كاملاً، بل ربما اشتعلت كلمة خلاّقة من بين الكلمات في مخيّلته المائجة، فإذا هي تتحوّل إلى فكرة مشروع رائدº تنتفع به البشرية كلها.
الكتابة عملية هائلة، لا يعيها كما هي إلا الذي يكابدها حقاً، وحين يجيئه المخاض، وتقترب يد الكاتب من جذع النخلة ليهزّه بقوة الضعفº يساقط الرطب جنياً، هنا لا يحس القارئ بكل تلك الآلام الفادحة، بل يتمتع بطعم الرطب اللذيذ، الذي يخامر أعصابه العطشى.
ترى هل أنت قارئ إيجابي؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد