المنهج الأمثل لخطبة الجمعة ( 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فنكمل حديثنا حول الإعداد والبناء لخطبة الجمعة، فنقول مستعينين بالله - تعالى -:

1- وحدة الموضوع: ينبغي الاقتصار على موضوع واحد تستوفى عناصره وتُحبّره كلماته وتعمق معالجته، لأن تشعب الموضوعات وتعدد القضايا في المقام الواحد يُشتت الأذهان ويُنسي بعضها بعضًا، ويقود إلى الإطالة المملة والصورة الباهتة وسطحية المعالجة.

2- الجدة والتغيير: ويعني ذلك ألا يلتزم الخطيب طريقًا واحدة أو وتيرة واحدة في أسلوبه وطريقة إلقائه، بل يكون استفهاميًا تارة، وتقريريًا أخرى، وضربًا للأمثال وتلمسًا للحكم والأسرار، مع ما يطلب من معايشة الأحداث ومتابعة المتغيرات، وتلمس حاجات الناس وتوجيههم وتبصيرهم تمشيًا مع أثر هذه المتغيرات عليهم.

على أن الخطب المنبرية بطبيعتها قد تستدعي تكرارًا لبعض موضوعاتها إن لم تكن كثيرًا منهاº لأن من أعظم أغراضها ومقاصدها الدعوة والتذكير، والتذكير في حقيقته يعني الحديث عن شيء سبق علم السامع به فهو تنبيه

لغافل، وحثُّ لمقصر، مما يستدعي التجديد في الطرق والأسلوب والمعالجة، كالتوحيد والعبادة والصلاة والصوم والزكاة وبر الوالدين والمحرمات من الربا والخمر والزور وأكل أموال الناس بالباطل، وأمثالها، مما يجب مراعاة التجديد في طرقها والتغيير في عرضها.

طول الخطبة: من المعلوم أن معالجات الموضوعات تختلف باختلاف محتواها وظروفها وسامعيها، ففي بعض الظروف يحسن البسط والإطناب، ويكون السامعون مستعدين للاستماع، كما هو مشاهد في ظروف الأزمات والأوضاع ذات النقاشات الحادة والأحوال المتوترة، كما أن بعض الخطباء عنده من الجاذبية وحسن العرض والإلقاء ولطف التردد والأخذ بالألباب ومجامع العقول ما يجعلهم يطلبون المكوث حول خطيبهم ويقبلون منه الإطالة، إن هذه ظروف وأوضاع لا تنكر، ولكن الحال الأغلب والواقع الأعم أن النفوس لها حد تحسن فيه الاستماع وتدرك فيه المعاني بعده تتشبع وتقف ويصبح الكلام عندها مملولاً، والأداء ثقيلاً، وينسي بعضه بعضًا، فالوصية العامة للخطباء أن يجتنبوا الإطالة ويجنحوا إلى الاعتدال وتغليب جانب الاختصار على الإطناب في أعم الأحوال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه».

ويحسن من الخطيب أن يعود سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه فإنهم إذا خبروه بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره.

ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون بخطيبهم من غير ملل أو سآمة.

صفات الخطيب وآدابه: لكل خطيب متميز خصوصيته، ومهما كانت الأفكار بديعة، والابتكارات متميزة، والاختيارات قوية، والأسلوب رصينًا، والإلقاء عاليًا، فلن تتحقق المثالية والأنموذجية للخطبة بهذه العناصر وحدهاº لأن هناك عاملاً مهمًا لا يجوز إغفاله، إنه خصوصية الخطيب وانفراديته، وبعبارة أخرى انصهارية هذه العناصر وانسجامها وهذا لا يتأتى إلا من خلال الخطيب وشخصيته وتكامل موهبته وخصائصه العلمية والفنية (1). إن الخطيب كاللباس المفصل على القامة لا يظهر جماله ولا يتكامل بناؤه إلا بقدر انسجامه على بدن اللابس.

إن جودة اللباس وحسن لونه ونوع خياطته ودقة تفصيله لا تكفي في إعطاء الملبس الحُسنَ إلا بعد اتساق ذلك مع قامة اللابس وبدنه، ولهذا فإن الخطبة الجيدة مستوفية العناصر لو ألقاها غير صاحبها لما ظهرت بذات القوة والتأثير والجمال والتأثر.

إذا كان الأمر كذلك فينبغي للخطيب المتطلع للنبوغ والإبداع أن يعرف مواهبه الخاصة ويحسن صقلها وتنميتها، ويستقل بالابتكار والاختبار والأسلوب والإلقاءº لأن المداومة على التقليد والمحاكاة وإطالة الاقتباس لا تنتج خطيبًا متميزًا ذا خطب مثالية، والله المستعان على الإحسان والإخلاص.

وهذا عرض لما ينبغي أن يكون عليه الخطيب من صفات وما يتحلى به من آداب:

تنقسم الصفات المبتغاة في الخطيب إلى نوعين:

صفات فطرية وصفات مكتسبة.

الصفات الفطرية: ويقصد بها الصفات الذاتية لدى الخطيب من الاستعداد الفطري، والسليقة الطبيعية، من طلاقة اللسان، وفصاحة المنطق، وثبات الجنان وصوت جهوري، وأداء متوثِّب، ولسان مبين سليم من عيوب الكلام كالفأفأة والتأتأة لتكون مخارج الحروف عنده صحيحة.

والخطيب كغيره من المربين والموجهين يحتاج إلى عقل راجح يقوده إلى البحث المركز، والملاحظة الدقيقة، وحسن المقارنة، والمعرفة بطبائع الأشياء، وسلامة الاستنتاج، مع يقظة حية وبديهة نيِّرة، يُضمّ إلى ذلك الجرأة والشجاعة والثقة بالنفس ورباطة الجأش وهذه الصفات تتوثق مع قوة التكوين العلمي وجودة التحضير وطول الخبرة.

الصفات المكتسبة: وهي صفات ينالها الخطيب من الدراسة والمران والدٌّربة، ويمكن تفصيل ذلك فيما

يلي:

1- القراءة والاطلاع والتحصيل الكافي من العلم: لابد للخطيب صاحب الموهبة الفطرية من تهذيب فطرته هذه وصقلها بالعلم والدراسة ويتركز ذلك في عدة مسارات:

أ- علوم القرآن والسنة، وهذا هو لبّ بضاعته، والسبيل إلى تحقيق غايته، ينضم إلى ذلك إلمامه بالسيرة وتاريخ الأمة وأئمتها ودراية بأحكام الشريعة، وقد تحسن العناية بأنواع من العلوم التي تفيد في معرفة أحوال الأمم وسنن الله في التغيير كالعلم بمناشئ الأمم ومراحل التاريخ وعلم الأخلاق والنفس والاجتماع.

ب- الإكثار من الاطلاع على الكلام البليغ والنظر في أقوال البلغاء متأملاً في مناحي التأثير وأسرار البلاغة، متذوقًا جمال الأسلوب وحسن التعبير، فهذا مما يشحذ القريحة ويذكي الفطنة.

جـ- تحصيل ثروة كثيرة من الألفاظ والأساليب، فالخطيب يحتاج إلى عبارات وأساليب متنوعة للمعنى الواحد ليتمكن من إيصال المعنى لطبقات السامعين ورفع السآمة عن نفوسهم، ولا يخدمه في ذلك إلا ثروة لغوية من أجل أن يأخذ بنواصي البيان، فيلقي جملاً تُثير خيال النفس، وتهزّ مشاعر الوجدان، فتنشط الأسماع وتشرئب الأعناق وتتفتح القلوب للعبارات المحكمة والمعاني المتقنة، وبهذا ينطق اللسان، ويظهر البيان، وتتشنف الأسماع.

2- الدربة والمران: الخطابة ملكة لا تتكون دفعة واحدة، بل إنها معاناة وممارسة ومران، وإذا كانت الخطابة فكرة وأسلوبًا وإلقاء محكمًا فإن المران ينبغي أن ينتظمها كلها، ففي باب الفكرة عليه أن يتعود ضبط أفكاره ووزن آرائه وحسن الربط بينها ليأخذ بعضها برقاب بعض ويوصل بعضها إلى بعض بتسلسل منطقي مرتب.

وفي باب الأسلوب - كما سبق - الإحاطة بالقول البليغ وحفظ كثير من فنونه وحسن استخدامها. أما الإلقاء - فكما سبق أيضًا - يجمل بالخطيب إجادة الدقة في مخارج الحروف وحسن أدائها بترسل وتخير نبرات الصوت الملائمة انخفاضًا وارتفاعًا غير هيَّاب ولا وجل. وإذا ما تم له ذلك أصبح واثق العلم رصين الأسلوب، رابط الجأش، مطمئن النفس، ثابت الجنان، ولو حصل عكس ذلك أو قلّ مرانه لأحاط به الاضطراب والضعف وهان في أعين الحضور واضمحل تأثيره وذهب كلامه هباءً وتصبب عرقًا وغرق في الحيرة والدهشة وعلاه الارتجاج والإفحام. وللحديث بقية بإذن الله.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply