بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص الخطبة
1- ضرورة المحاسبة والمراجعة. 2- كثرة المتغيرات الكونية. 3- أنواع من الآيات والحوادث والكوارث. 4- دروس وعبر من هذه الآيات والحوادث. 5- حال الناس مع هذه الحوادث والكوارث. 6- نصرة المصطفى. 7- فضل صيام عاشوراء والمحرم.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله رحمكم الله، فحياة الإنسان مراحل، والناس في هذه الدنيا ما بين مستعدٍّ, للرحيل وراحل، وكلّ نفسٍ, يدني من الأجل، ودقّات قلب المرء تباعد عن الأمل، فالكيِّس الحازم من حاسب نفسه يومًا بيوم، وساعةً بساعة، فما ترون الناس إلاّ حيًّا أدركته منيّته، فواراه التراب، وصغير بل سنَّ الشباب، وشابّ امتدّت به الحياة حتى شاب، ومن وراء الجميع نقاش وحساب، فهنيئا لمن أحسن واستقام، والويل لمن أساء وارتكب الآثام، ويتوب الله على مَن تاب، مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبٌّكَ بِظَلاَّمٍ, لِلعَبِيدِ [فصلت: 46].
أيّهَا المسلِمون، يحسُنُ التذكيرُ وتجدُر المحاسبَة حينَما تكون المناسبةُ، وها أنتم في مفتَتَح عامٍ,، وقد ودّعتم عامًا قبلَه، وعامُكم المنصرِم جرَت فيه أحداثٌ وتجلّت فيه آيات، ولكنَّ الغفلةَ والركون إلى الأسباب والتعلّقَ بها تغلِّظ من قساوةِ القلوب.
أيّها المسلمون، يذكر الرّاصِدون ويتحدَّث الإحصائيّون عن تكاثُرِ المتغيِّرات الكونية على هذه الأرض وتتابُع الحوادث والكوارث في هذا العصرِ، حتى قالوا: إنَّ الزلازل في السنواتِ الأربع الماضية أكثرُ منها أربعَ مراتٍ, مما لم يحصُل مثلُه سوى مرّة واحدة طوالَ عشرين سنة أو أكثر في أوائل القرنِ الماضي، ويقولون: إنّه كلّما تقدَّمت السنون زاد عدَد الزلازل والغِيَر وأنواع الكوارث والمثُلات.
ولعلَّ المتأمِّلَ والناظر بعينٍ, راصدة وقلب يَقِظ يحاول أن يسترجعَ بعضَ هذه الآيات والحوادِثِ والكوارث والنّذُر ليجدَها ما بين موجٍ, عاتي وماءٍ, طاغي وخسفٍ, مهلِك وزلزال مدمِّر ووباءٍ, مميت، يرسل الله الجرادَ والقمَّل والضفادع والدمَ والطيور بأمراضها والأعاصيرَ برياحها والفيَضانَات بمائِها، في آياتٍ, مفصّلات، أمراضٌ مستأصِلَة وأوبِئَة منتشِرة تحملها طيورٌ وتنقلها حيوانات، لا يملِك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيع أحدٌ صدَّها ولا السيطرةَ عليها مهما أوتيَ مِن علم في مكتشفاتِه ومختبراته ومخترَعاته وراصداته، لا يملك السيطرةَ عليها ولا الحدَّ من انتشارِها ولا دفعها أو ردَّها، إنها جنودٌ من جنودِ الله في البرّ والبحر والجوّ، وَمَا يَعلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكرَى لِلبَشَرِ [المدثر: 31].
جنودٌ غير متناهِيَةº لأنَّ قدرةَ الله غير متناهية، فالكون كلٌّه بإنسِه وجنّه وأرضِه وسمائه وهوائه ومائِه وبَرّه وبحره وكواكبه ونجومِه وكلِّ مخلوقاته ما علِمنا منه وما لم نعلَم كلٌّها مسخَّرة بأمرِه، - سبحانه - يمسك ما يشاء عمّن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى من يشاء، وكيف لا تُدرَك عظمةُ الجبار جلّ جلاله وضَعف جبابرة الأرض مهما أوتُوا من قوّة؟! كيف لا تدلٌّ على عظمَةِ الجبّار ومنها ما يهلِك أممًا ويدمِّر ديارًا في ثوانٍ, وأجزاء من الثواني، ومنها ما ينتقِل عبرَ الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يُرى، ومنها ما لا يُرى؟! نُذُر وآيات وعقوباتٌ وتخوِيفات، لا تدفعها القوى، ولا تطيقها الطّاقات، ولا تقدر عليها القدرات، ولا تتمكَّن منها الإمكانات، ولا تفيد فيها الرّاصِدات ولا التنبّؤَات، ولا تصِل إليها المضادّاتُ ولا المُصِدّات، من حيث يحتسِبون ولا يحتَسِبون، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخسِفَ اللَّهُ بِهِم الأَرضَ أَو يَأتِيَهُم العَذَابُ مِن حَيثُ لا يَشعُرُونَ أَو يَأخُذَهُم فِي تَقَلٌّبِهِم فَمَا هُم بِمُعجِزِينَ أَو يَأخُذَهُم عَلَى تَخَوٌّفٍ, فَإِنَّ رَبَّكُم لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47]، أَفَأَمِنتُم أَن يَخسِفَ بِكُم جَانِبَ البَرِّ أَو يُرسِلَ عَلَيكُم حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُم وَكِيلاً [الإسراء: 68]، أَأَمِنتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يَخسِفَ بِكُم الأَرضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَم أَمِنتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يُرسِلَ عَلَيكُم حَاصِبًا فَسَتَعلَمُونَ كَيفَ نَذِيرِ وَلَقَد كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَكَيفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك: 16-18].
عبادَ الله، إنها آياتُ الله وأيّامه، تظهر فيها عظمةُ ذي الجلال وقُدرته وقوّته وعظيم سُلطانِه وعِزّته وتمامُ ملكه وأمرِه وتدبيره. إنَّ هذه الحوادثَ والقوارع توقِظ قلوبًا غافلةº لتراجعَ توحيدها وإخلاصَها، فلا تشرِك معه في قوَّتِه وقدرته وسلطانِه أحدًا، ويُفيق بعض من غرَّتهم قوّتهم، فيتذكَّرون أنَّ الله الذي خلَقَهم هو أشدّ منهم قوّةً، وبخاصّةٍ, أولئك المستكبرون ممن غرَّتهم قوَّتهم وطال عليهم الأمَد، فرِحوا بما عندهم من العِلم، ولقد قال الله في أقوامٍ, سابِقين: فَأَمَّا عَادٌ فَاستَكبَرُوا فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَن أَشَدٌّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَم يَرَوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُم هُوَ أَشَدٌّ مِنهُم قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجحَدُونَ [فصلت: 15]، وقَالَ في آخَرين: أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَكثَرَ مِنهُم وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرضِ فَمَا أَغنَى عَنهُم مَا كَانُوا يَكسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِن العِلمِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُون فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحدَهُ وَكَفَرنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إِيمَانُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا [غافر: 82-85].
أيّها المسلِمون، ومن مواقفِ العِبَر والادِّكار في هذهِ الآياتِ والنّذُر ما يرسِل الله فيها من التخويفِ والتّحذير كما قال - سبحانه -: وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخوِيفًا [الإسراء: 59]، وقوله في كسوفِ الشمس وخسوفِ القمر: ((إنهما آيتَانِ من آيات الله، يخوِّف الله بهما عباده)). فكَم من إنسانٍ, يرَى آحادَ الناسِ مِن حولِه يُتَخَطّفون ويُقتَلون ويَقرَأ آياتِ الله لكنّه لا يعتبر، فإذا ما رأى مِن هذه الآياتِ الكِبار المخوِّفات تذكَّر وادَّكر، فهي ذِكرى لمن كان له قلب، يستوي في ذلك من حضَرها ومَن شاهدَها ومن وَقع فيها ومن نَجا منها ومن سَمِع بهاº أعاصيرُ وزلازل وفيضانات وانهيارات وأوبِئة وأمراض من آيات الله وجنودِه، تذكِّر الغافلين وتنذِر الظالمين وتوقِظ المستكبرين ويَعتَبر بها المؤمنون ويرجِع بها المذنبون.
انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى هدي نبيِّكم محمّد وخوفه من ربِّه مع أن الله - سبحانه وتعالى - قد جعَله أمَنَةً لأصحابه، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم [الأنفال: 33]، ومع هذا كان إذا هبّت الريح الشديدةُ عرِف ذلك في وجهِه، وحين ينعقد الغَمام في السماء ويكون السّحابُ ركامًا يُرَى - عليه الصلاة والسلام - يقبِل ويُدبِر ويدخل البيتَ ويخرج، فتقول عائشة - رضي الله عنها -: ما بك يا رسول الله؟! فيقول: ((ما يؤمِّنُني أن يكونَ عذابًا، إنَّ قومًا رأوا ذلك فقالوا: هذا عارِضٌ ممطرنا، فقال الله: بَل هُوَ مَا استَعجَلتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24])) حتَّى إذا نزَل المطر سرِّيَ عنه.
ومن المواقفِ في هذه الآياتِ والابتلاءاتِ ما يفتِن الله بهِ عبادَه القادرين الموسِرين، فيَنظرَ كيف يعملون: هل ينفِقون من مال الله الذي آتاهم؟ وهل يسارِعون في إخوانهم أم تراهم يقبِضون أيدِيَهم ينسَون ربَّهم وينسَون إخوانهم ويعيشون في غَفلَتِهم؟ وفي هذه الابتلاءاتِ حَدّث ولا حرج من أنواع الإغاثات التي يبذُلها الموفَّقون من غذاءٍ, وكساء وعلاج وتعليم ومأوى وأنواعٍ, من المساعدات والمواسَاة، لا تقَع تحت حصرٍ, من حُسن معامَلَة وشفقة وإحسانٍ, في القول والعمل، ومن رحم أهلَ الأرض رحِمَه ربٌّ السماء، فلِلَّه الحكمة البالغةُ في خلقه وأمره وتدبيره وصُنعه وفي آياته وابتلاءاته.
أيّها المسلمون، وهذه الآيات والحوادث والكوارثُ ولو عُرِفت أسبابها المادّيّة وتفسيراتها العِلمية فلا ينبغي أن يُظَنَّ أن هذا صارفٌ عن كونها آياتٍ, وتخويفات والنّظرِ في ما وراء الأسبابِ والتعليلات من أقدارِ الله وحُكمِه وحِكمَته، فهي آيات الله ومَقَادِره، يقدِّرها متى شاء، ويرسلها كيف شاء، ويمسِكها عمّن يشاء، يعجزُ الخلق عن دفعها ورفعها مهما كانت علومهم ومعارِفهم وقواهم واحتياطاتهُم واستعداداتهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فإذا كان الكسوفُ له أجَلٌ مسمّى لم ينافِ ذلك أن يكونَ عند أجَلِه يجعله الله سببًا لما يقتضيه من عذابٍ, وغيره لمن يعذِّب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممّن ينزل الله به ذلك، كما أنَّ تعذيبَ الله لمن عذّبه بالريح الشديدةِ الباردة كقوم عادٍ, كانت في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهلُ التفسير وقَصص الأنبياء. ـ قال - رحمه الله -: ـ وكذلك الأوقاتُ التي ينزل اللهُ بها الرحمةَ كالعشرِ الآخرة من رمضان والأُوَل من ذي الحجة وكجوفِ الليل وغير ذلك هي أوقاتٌ محدَّدة، لا تتقدّم ولا تتأخّر، وينزل فيها من الرحمةِ ما لا ينزل في غيرها" انتهى كلامه. وقال مثلَ ذلك وقرّرَه الإمامُ ابن القيّم في مفتاح دارِ السعادة.
عبادَ الله، وإنَّ مما يُخشَى أن يكونَ الركونُ إلى التفسير المادّيّ والاستكانةُ إلى التحرير العِلميّ والبعد عن العِظَة والذكرى من تزيينِ الشيطان، كما في قوله - سبحانه -: فَلَولا إِذ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُم الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ [الأنعام: 43].
عياذًا بالله عبادَ الله، تهتزّ البِحار وتتصدَّع الجبال ولا تهتزّ القلوب؟! وترتجف الدّيار ولا ترتجف الأفئدة؟! وتعصِف الرياح ولا تعصِف النفوس؟! وتتزلزَل الأرض ولا يتزلزل ابنُ آدم المخذول؟! يبتَلَون ويفتَنون في كلِّ عام مرّة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا كأصحابِ نفوسٍ, قست قلوبها وغلُظت أكبادها وعظُم عن آياتِ الله حجابها، فلا تعتبر ولا تدّكِر، لا تكونوا من أقوامٍ, جاءتهم آياتُ ربهم فكانوا منها يضحَكون، وتأتيهم الآيةُ وهي أكبر مِن أختها فكانوا عنها معرضين.
إنَّ من تأمَّل أحوالَ بعض الناس ومواقفَهم ومسالكهم رأى أمورًا مخيفةº فيهم جرأةٌ على حرماتِ الله شديدة، وانتهاك لحرمات الله عظيمة، وتَضييع لأوامره، وتجاوزٌ لحدوده، وتفريطٌ في المسؤوليات في العباداتِ والمعاملات وإضاعةِ الحقوق، فالحذَرَ الحذر رحمكم الله مِن مكر الله، فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُل انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا تُغنِي الآيَاتُ وَالنٌّذُرُ عَن قَومٍ, لا يُؤمِنُونَ فَهَل يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِهِم قُل فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِن المُنتَظِرِينَ [يونس: 101، 102].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمون من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أهل الحمد والثناء، أحمده - سبحانه - وأشكره في السّراء والضراء، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، صلى الله سلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم القضاء.
أما بعد: أيّها المسلمون، ونحن في استقبالِ العامِ وفي مفتَتَح عامِ الهجرة النبوية نستَذكِر الهجرةَ بصاحبها - عليه الصلاة والسلام - وبأحداثها، ومِن أبرز دروسِها ما خاطب الله - سبحانه وتعالى - هذه الأمّةَ في هذه الآية: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40]. ويحسَب المتأمّلُ أنَّ الأمةَ اجتهدت في نصرةِ نبيِّها محمّد هذه الأيّام.
مِن حقِّ كل مسلِمٍ, أن يعبِّر عن فرحتِه العامِرة وسعادتِه الغامِرَة بهذه الهبَّة الإسلاميّة مِنَ الأمة المحمّدية، دفاعًا رائعا عن خيرِ البرية سيّدنا ونبيّنا وإمامنا وحبيبنا محمّد، روحٌ جديدة عظيمة تسرِي في جسد الأمة تذكِّر بحديث المصطفى - عليه الصلاة والسلام -: ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفِهم كمثل الجسَد الواحد إذا اشتكى منه عضو تَداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)). في هبّة الغيرة على حبِّ محمّد تكاتفَتِ الأمّة وتداعت إلى الحقّ، وكان لهذه البلاد بلادِ محمّد مولدِه ومبعثِه ومهاجره ومتنزَّل كتابِه ومهبَط وحيِه كان لها دورُ الرّيادة مما يستحقّ الثّناء والإشادة، ثم تبِعَهم إخوانهم وأشقّاؤهم دوَلاً وشعوبًا.
رُبَّ ضارّةٍ, نافعة أيّها المسلمون، فالمسلمون بإذن الله لم يصِلوا مرحلةَ الغثاء، لقد صار بوسعِهم في زمنِ العوَلمة أن يأخذوا موقِفًا مشتركًا يعبر قارّات الدنيا كلَّها، لم يعد بوسعِ العالم أن يتجاهلَ هذه الأمَةَ ومشاعِرَها لِيَخشى هبَّتها ونهضتها ولتَفرِضَ هيبتها.
إنَّ الاعتذارات حين تحصُلُ من المخطئين والمسيئين ليس التزامًا بمعايير الأخلاق واعترافًا بالحقوق، بل إنّه حسابٌ للمصالح وتقديرٌ للعواقب وهيبَة لمن أساؤوا في حقه، إِنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ [الحجر: 95].
ولعلَّ فرحتَنا وبشائر آمالنا في أمّتنا تدعونا لأن نقفَ وقفةَ تأمّل أمام هذه الواقعة حادِثَة إفكِ العصر، لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم [النور: 11].
مِن هذه الوقفات والتأمّلات هذه المنزلة العظيمةُ للحبيب المصطفى الرّسول المجتبى، فحبٌّه لا يبلى، ومنزِلته لن يُنالَ منها، فهو في المقام العالي والمكان الشامخ السامِق لدى أتباعِه إلى يوم الدين بأبي هو وأمّي، حبُّ عظيم وكأنّه بين أظهرِنا - عليه الصلاة والسلام -، ولعلَّنا إن شاء الله نَبلُغ منزلةَ إخوانِه الّذين أَخبر عنهم ولم يَرَهم وتمنَّى رؤيَتَهم.
ومِن هذه التأمٌّلات والمواقِف اجتماعُ الأمّة بكلِّ مذاهبها واتِّحاد مشاعِرِها ومواقِفها وشعورِها بأنهم أتباعُ هذا النبيِّ وأتباع هذا الدينِ وأنَّ العدوَّ واحد وأنَّ الهدفَ واحد.
ومِن ذلك قوّةُ هذه الأمة وفاعِليّتها في شعوبها ودُوَلها.
ومِن ذلك افتضاحُ الأعداء النّاطقين منهم والصامِتين.
ومِن ذلك افتضاحُ المعايِيرِ، فمَن هو يا تُرَى المتَّهَم بالإقصاء؟! وَمَن هو المتَّهم بكرهِ الآخر وبُغض الآخر؟! ومَن هو المدعُو للتسامح؟!
ومِن باب افتضاحِ المعايير واضطِرابها ما قيل مِن حرّيّة الكلمة وحرّيّة الرأي وحرية التعبير، ومن المعلوم لدى العقلاءِ أنَّ الاستهزاءَ بالناس وقذفَهم والسخريةَ بهم ليس من الحرية في شيء، بل لا يمارِسها متّزنٌ فضلاً عن يقبَلها عاقل. ومِنَ المعلوم أنه حين كسِّرَت بعضُ التماثيل في بعضِ البلدان قامت قائمَتُهم ولم تَقعُد وأرجَفُوا بخَيلِهم ورَجِلهم واستكتَبوا أهلَ الشرق والغرب، وليس المقامُ هنا مقام تصويبِ ذلك أو تخطئَتِه، ولكنّه شاهدٌ لاضطرابِ المعايير وغَلَبة الأهواء وتوظيفِ الأحداث، ناهيكم بأمورٍ, تواصَوا على منع الحديثِ عنها أو الكتابةِ فيها ضارِبين بما أسموه: حرّيّة الرأي وحريةَ التعبير عرضَ الحائط.
ومن هذه المواقفِ والدروس والتأمّلات عِظَم أثرِ الإعلام في إيجابياته وسلبيّاته، وما ينبغي أن يلتَفِت إليه القادرون من المسلمين من البذلِ في هذا المرفق وترشيده وتوجيهه لخدمة الأمّة، فالعصر عصرُ إعلام، والكلامُ للقنواتِ والفضائيات وشبكات المعلومات، فعلى القادرين من الأمّة وتجّارها وهم خير من يُدعَى وخير من يسمع: تِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِن اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ, فِي سَبِيلِهِ [التوبة: 24]، حاشا بإذن الله، فأنتم أهلُ البذل والغَيرة والنّجدة.
ومِنها ضبطُ العواطف والسَّير في الموضوعِ برشادٍ, ورَوِيّة، ويجب الرجوعُ إلى رجالِ الأمّة من أهل العلم والرأيِ والقَرارº حتى تؤتيَ الأعمال ثمارَها، ولا تكون الهبّةُ إثاراتٍ, وعواطفَ لا أزمَّة ولا ضوابطَ، تُديرها هواتِفُ جوّالة وتحرِّكها عباراتٌ في شبكاتِ معلومات.
ومنها أنَّ نصرةَ نبيِّنا محمّد دينٌ يتقرَّب به المسلمون إلى ربهِم ونعمةٌ ينعِم بها الله عليهم، أما جانِب المصطفى فمحفوظ، وجانبه مَنصور، ولو تقاعس المسلمون وتخاذلوا فلقَد قال - سبحانه -: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40]، وقال - سبحانه -: وَإِن تَتَوَلَّوا يَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم [محمد: 38]، وقال في حقّه - سبحانه -: وَاللَّهُ يَعصِمُكَ مِن النَّاسِ [المائدة: 67]، وقال له - سبحانه -: مَا وَدَّعَكَ رَبٌّكَ وَمَا قَلَى [الضحى: 3]، وقال له: وَلَسَوفَ يُعطِيكَ رَبٌّكَ فَتَرضَى [الضحى: 5]، وقال له: فَسَيَكفِيكَهُم اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [البقرة: 137]، وقال له: وَرَفَعنَا لَكَ ذِكرَكَ [الشرح: 4].
هذهِ مواقفُ ودروس وعِبَر وبشائر، فاتقوا الله رحمكم الله، وتعلَّقوا بربّكم، وحاسبوا أنفسكم، واعملوا واجتهدوا وأخلِصوا وأبشروا وأمِّلوا، واستدركوا وأنتم في مستقبَلِ عامِكم وفي مستهلِّه، استدركوا أعمالَكم فرائضَ ونوافل، فأنتم في مقتَبَل هذا العامِ الجديد، فاستعتِبوا واستدركوا، وهذا هو شهر الله المحرَّم، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا.
وإنَّ من خير ما تستَفتِحون به عامكم ما ندَبكم إليه نبيٌّكم محمّد من صيام يوم العاشر وصيامِ يومٍ, قبله أو يوم بعده، يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - كما في صحيح مسلم: ما علِمتُ أنَّ رسول الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء الحديث. وفي الصحيح أيضا عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيّ قال: ((صوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)).
فبادِروا إلى الخيرات، وسارعوا إلى المكرُمات، ومن كان صائمًا فليصُم يوما قبله أو يومًا بعده، ومن صام شهر الله المحرّم كلَّه فهو خير إلى خير، فأفضل الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرم كما جاء بذلك الخبر.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأروا الله من أنفسكم خيرا، وصلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى سيدنا ونبينا محمد خليل ربّه، فقد أمركم بذلك ربكم - جل وعلا -، فقال عز قائلا عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد النبي الأمي، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد