وداع العام وما فيه العبر


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ " [البقرة: 281]، وخذوا من تعاقب الليالي والأيام وتصرم الشهور والأعوام أعظم العبر وأبلغ العظات، ألا ترون أن الليل والنهار يتراكضان، وأنكم بمرورهما في آجال منقوصة وأعمال محفوظة؟! فالأعمار تفني، والآجال تدني، وصحائف الأعمال تطوي، والأبدان في الثرى تبلى، أليس في ذلكم للعاقل أعظم العبر وأبلغ العظات؟! وقد كان السلف الصالح يجعلون من مرور الأيام والسنين مدّكرًا ومزدجرًا، فكانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس، قال بعضهم: "كيف يفرح مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته؟! ".

معاشر الأحبة، ألا ترون أنكم في هذه الحياة تتقلبون في أسلاب الهالكين، وستذهبون رغمًا عنكم وتورثونها لخلفكم اللاحقين؟! وها أنتم في كل يوم تشيعون منكم غاديًا ورائحًا إلى الله - عز وجل -، قد قضى نحبه وفارق الأحباب، وسكن التراب وواجه الحساب، غنيًا عما خلف، فقيرا إلى ما أسلف، أليس في ذلكم معتبر، وعن الغيّ مزدجر؟! فاتقوا الله يا أولي الألباب.

عباد الله، وإن الليالي والأيام جعلها المولى- تبارك وتعالى -مواقيت للأعمال ومقادير للآجال، تنقضي جميعًا وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وقدر ما فيها باقي لا يزول ودائم لا يحول، وأما الخلق فمصيره في هذه الدار للفناء، وكل ما على صعيد الأرض كائن للتراب، " كُلٌّ مَن عَلَيهَا فَانٍ, وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكرَامِ "[الرحمن: 26، 27]. وها أنتم تودعون عامًا قد انقضى، وجزءًا من العمر قد مضى، قد تولت لحظاته وبقيت تبِعاته، فكل شهر يستهله الإنسان ويستكمله يدنيه من أجله ويقصيه عن أمله، ويبعده عن ضيعته ويقربه من آخرته، وغدًا توفى النفوس ما عملت ويحصد الزارعون ما زرعوا، " فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيرًا يَرَه وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, شَرًّا يَرَه" [الزلزلة: 7، 8].

معاشر المؤمنين، إن لكل شيء بداية، ونهاية عامنا قد أوشكت على الاقتراب، فقد آذن عامنا بالرحيل وولى الأعقاب، وإن هذا الرحيل ليترك في النفوس عظيم الحزن وبليغ الأسى على جزء من العمر قد انقضى وتصرم ومضى في غير طاعة للمولى، وربما في مقارفة بعض الذنوب واتباع الهوى، ولا يمكن رد شيء مما فيه أو إصلاحه أو تلافيه إلا بالتوبة الصادقة والندم على ما كان والرجوع حقًا إلى الملك الديان.

هَلُمّ بنا ـ يا إخوة العقيدة والإيمان ـ لنحاسب أنفسنا ونستلهم الدروس والعبر ونحن في ختام العام، ماذا قدمنا من أعمال صالحة؟ دعونا ـ يا أمة الإسلام ـ نتباحث عن عامنا كيف أمضيناه، وعن وقتنا كيف قضيناه، وننظر في كتاب أعمالنا كيف طويناه، وفيه نبصر ما أسلفناه ويتبين ما قدمناه، فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه.

فيا إخوة الإسلام، ويا أبناء الرسالة، يا أمة التوحيد، ليست الغبطة في التمتع بالملذات، وليست السعادة في تناول الشهوات، إن الخير كل الخير أن يوفق المسلم في ختام عامه إلى التوبة النصوح وفتح صفحة جديدة من الأعمال الصالحة، قبل أن تقول نفسي: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خطبته: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، " يَومَئِذٍ, تُعرَضُونَ لا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ " [الحاقة: 18]).

فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه طالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيّئاته، وظهرت خسارته ودامت حسراته، ولئن كان أهل الأموال والتجارات يقومون بعمل تصفية وجرد لحساباتهم في آخر كل عام مالي لينظروا الطرق التي ربحوا فيها فيكثروا منها والطرق التي خسروا فيها فيجتنبوها، فما أحرانا ـ معشر المسلمين ـ بذلك في نهاية كل سنة وبداية الأخرى أن نقف مع أنفسنا فنحاسبها ماذا أسلفنا من الأعمال.

معاشر المسلمين، كم في النفوس من لوعة على فراق أحبة لنا مضوا خلال العام راحلين وانقطع ذكرهم، رجال طالما انتظروا الصلاة بعد الصلاة، وطالما لهجوا بتلاوة الآيات، وعمروا الأوقات بجليل الطاعات وعظيم القربات، استُلّوا من بيننا دون اختيار، ومضَوا إلى الواحد القهار. إنّ في الله عزاء من كل مصيبة، وجبرانًا من كل نقيصة، وخلفًا من كل فائت. وكم من أهوال عظام وأحداث جسام مرت بنا خلال العام، أقضت المضاجع وأفزعت القلوب في الهواجع، من ظلم الظالمين وإفساد الفاسدين.

معاشر المسلمين، إن كثيرا من الناس تمضي عليهم الأيام والشهور وتنصرم عليهم الأعوام والدهور وهم بين السهو والغفلة وكثرة المشاغل والانهماك في متع الحياة، حتى يفاجئهم الموت وهم عن غير استعداد ليوم المعاد والتزود له بخير الزاد، إذ يقول - سبحانه وتعالى -: "يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الخَاسِرُونَ" [المنافقون: 9].

إن المؤمن العاقل بين مخافتين، بين أجل مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، وليس بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إننا نفرح بمرور الأيام والشهور لنبلغ مقاصدنا وهي في الحقيقة من أعمارنا، ومن استوفى أيامه وعمره رحل عن الدنيا وترك كل ما له فيها، وانتقل إلى دار الآخرة وهو في تلك الحالة أحوج ما يكون إلى الزيادة في الحسنات والتخفيف من السيئات. قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل يومًا من عمره إلا بهدم آخر من أجله). وروي عن الحسن - رحمه الله - أنه قال: "ما من يوم ينشق فجره إلا نادى مناد من الله: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني بصالح العمل، فإني لا أعود إلى يوم القيامة".

ابن آدم، مسكين أنت، تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص كل يوم عمرك وأنت تفرح، كفيت فيما يكفيك، وتطلب ما يطغيك، لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع. فاجتهدوا فيما بقي من أعماركم بصالح العمل، وأخلصوا النية في كل شيء لله - عز وجل -، وتفقهوا في الدين، وكونوا بالحق والصبر والمراحمة متواصين، واحرصوا على ما ينفعكم، واستعينوا بالله ولا تكونوا ممن غفل واتبع هواه وكان أمره فرطا، فإن العمر ثمين ينبغي أن يصان عن تضييعه في البطالة أو أعمال أهل السفه والهوى والجهالة، بل اغتنموا لحظاته في عبادة الله بما شرع والحذر عن الشرك وأنواع البدع، فإن الأشياء ثلاث: أمر استبان رشده فاتبعوه، وأمر استبان غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم حكمه فلا تواقعوه، حتى يتبين لكم شأنه برده إلى الكتاب والسنة وما أثر عن السلف الصالح من هذه الأمة.

اللهم أيقظنا من رقود الغفلة، ونبهنا لما أمامنا ما دام لنا في الحياة مهلة، وارزقنا الاستعداد للقيامة قبل يوم النقلة.

بارك الله لنا في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا.

أيها الأحبة، إننا بعد أيام قلائل نودع هذا العام، عام مضى وانقضى من أعمارنا، لقد كنا بالأمس القريب نستقبله، وفي هذه الأيام نودعه، ولكن الفرصة لا تزال مهيئة لنا في استدراك الماضي، وذلك بالتوبة الصادقة حتى نبدأ صفحة بيضاء.

فمن بدرت منه خطيئة أو ارتكب معصية خلال هذا العام فبادر بالتوبة والاستغفار وأتبعها بالحسنة التي تمحوها كفرها الله عنه ووقاه خطرها، يقول - سبحانه -: "وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِر اللَّهَ يَجِد اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا" [النساء: 110].

معاشر المسلمين، إن التوبة الصادقة تمحو الخطيئة مهما عظمت، كما قال - تعالى -: "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغفَر لَهُم مَا قَد سَلَفَ" [الأنفال: 38]، وقد دعاكم ربكم - سبحانه وتعالى - فقال: "أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَستَغفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [المائدة: 74]. وإنه فتح بابه للتائبين ليلاً ونهارًا، قال: ((إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل))، وعلق الفلاح عليها فقال - سبحانه وتعالى -: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ" [النور: 31]، ووعد بالقبول عليها: "وَهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعفُو عَن السَّيِّئَاتِ" [الشورى: 25]. ووالله، لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوهº لأنه عظيم يغار إذا انتهكت محارمه، يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه، وكفى بخشية الله علمًا وبالاغترار بالله جهلاً.

فالبدار البدار إلى التوبة الصادقة قبل أن توضعوا في الحفر المظلمات، وقبل أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ومن قبل أن تقول: ربِّ ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت.

وبشرى أزفها لكم ـ معاشر التائبين ـ من كلام رب العالمين، هذه البشرى هي أن السيئات إذا تاب منها العبد بدلت حسنات، قال - تعالى -: "إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ, وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا" [الفرقان:70، 71]. فالتوبة التوبة أيها المسلمون، تفوزوا برضوان الله وتسعدوا في الدنيا وبالنعيم المقيم في دار المقامة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply