بسم الله الرحمن الرحيم
إن ظاهرة الأخلاق النفعية أضحت أمراً مقلقاً ولافتاً للنظر في هذا العصر..
وقد أدت إلى نتائج خطيرة في التعامل بين الأفراد والجماعات..
بل أصبح المرء يصاب بإحباط شديد وخيبة مريرة لما يجده من ازدواجية عند صنف من الناس، وتزداد الغرابة عندما نلمس ذلك عند بعض مَن يتخذون ظاهرة التورع والتدين وسيلة لمآربهم الخاصة.
وبعد أن يضمحل أثر الإيمان في النفوس، يستمد الناس قيمهم في التعامل من الهوى والمصلحة الشخصية، بل تصبح هذه المصلحة هي الشاغل الأول لأمثال هؤلاء، ومن هنا فلا يرجى من أعمالهم خير مهما تلبسوا بالصلاح، لأن الإخلاص والتجرد لله من أعظم خصائص هذا الدين، قال - تعالى -: {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعبُدُوا اللَّهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة 5].
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
ويقول ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المجال: « والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده ...
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؟ ألا وهي القلب ) [1].
فالإخلاص يبعث في نفس المؤمن كريم البواعث، فيعمل جاهداً على إشاعة الخير والتعاون والعدل بين الناس.
إلا أن هذه النزعة، نزعة الأنانية والنفعية غزت مجتمعاتنا بعد أن سادت أخلاق الغربيين من خلال غزوهم الفكري لبلادنا.
سيادة الأخلاق النفعية في ديار الغرب:
لقد غزت فلسفة الغربيين مجتمعاتنا المسلمة، ويرى أصحاب هذه الفلسفة (النفعية) أن السعادة الحقة هي التي يشعر بها الإنسان نتيجة لإشباع دوافعه الطبيعية وغرائزه الحسية دون التقيد بدين أو خلق قويم.
« وأصبحت الأخلاق الحديثة تُستمد من القيم المادية النفعية تحدوها ميكافيلية صريحة، وأضحى التعامل الاجتماعي قائماً على رابطة المصلحة وحدها، على الأخلاق التجارية.
لقد كفرت أوربا بالدين والأخلاق، ونبذ المجتمع كل مقوماته المستمدة من هذين الاتجاهين » [2].
تطور هذا الاتجاه النفعي في أوربا وأمريكا، وأخذ صوراً مختلفة، يمكن إيجازها في ثلاثة مذاهب [3].
لعل ذلك يوضح لنا ما نحن في صدده، وأثر هذه الأخلاق في سياسة القوم.
المذهب الأول: مذهب المنفعة الشخصية، وله صورتان: صورة دعا إليها أحد تلامذة سقراط « أرستبوس » وقد فسر السعادة لدى أستاذه باللذات العاجلة بدلا من الآجلة، وأن إشباع الدوافع في حينها أمر ضروري لأن تأخيرها يؤدي إلى الشعور بالحرمان والكآبة، فلا حياء ولا خجل في طلب اللذات في آية صورة كانت، ويعتبرون أن السلوك الذي يحقق هذه السعادة سلوك أخلاقي.
والصورة الأخرى: تتمثل في الفردية التي دعا إليها « هوبز » ومن سلك مسلكه، فقد ادعى أن الطبيعة الإنسانية طبيعة أنانية تعمل لمصلحة الذات، وقد اخترع الإنسان المبادئ الأخلاقية ليتخذها وسيلة يحقق فيها منفعته الشخصية.
ومن هنا يرى أن الأخلاق ما هي إلا وسيلة لتحقيق المنفعة وليست طبيعة في الإنسان.
المذهب الثاني: مذهب المنفعة العامة.
قال أصحابه: على الإنسان أن ينشد منفعة البشر عامة حتى الحيوانات، واعتبروا أن إقرار المنفعة غاية للأفعال الإنسانية، ومعيار للأخلاق، وتقاس أخلاقية الفعل بنتائجها لا ببواعثها.
المذهب الثالث: مذهب النفعية العملية « المذهب البراغماتي » ويمثله جون ديوي، ويهتم البراغماتي عادة بماله من قيمة معنوية.
والخطورة في هذا المذهب أن ديوي أرجع المثل الأخلاقية إلى نتائج الظروف الواقعية للإنسان، فهي ليست مبادئ مطلقة ثابتة يضعها الفلاسفة، كما أنها ليست من وضع المجتمع، ولا من وضع السماء.
ثم أنكر أن تكون للأخلاق غاية عليا سامية وثابتة، وأن لها مبادئ مطلقة لا تقبل التغير، ذلك لأن الحياة متطورة [4].
لقد سيطرت هذه الفلسفة بمذاهبها المختلفة على أخلاق الناس والحكومات في أوربا بقسميها وفي أمريكا، فاهتزت الأخلاق واضطربت الموازين، وسيطرت المنفعة والأنانية، وتحول الناس إلى ذئاب بشرية، ومن ثم طغت الروح الرومانية والفلسفة الإغريقية على أوربا من جديد.
وصارت بعض القيم، كالصدق والأمانة والاستقامة مثلاً لا تطبق إلا في حدود القومية ومصلحة البلاد على أساس ما تجلبه من النفع لحاملها، وتبطل إذا بطلت المنفعة القريبة أو البعيدة.
وهاهي المواثيق تعقد وتوثق، وفي لحظة غادرة تنقض وتصبح حبراً على ورق مجرد أن تلوح المصلحة القومية في نقض الميثاق.
ويمر الناس بهذا الأمر غير مبالين، لأن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر بموجب فلسفة الجاهلية اليونانية [5].
وقد عانت أمتنا من هذه الأخلاق الأمرّين خلال الاستعمار القديم وأثناء التعامل المعاصر من ازدواجية مريرة في قرارات الأمم وما يسمى بمجلس أمنها.
« إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه » [6].
هذا ما ينصح به أشرار اليهود في خططهم.
وهذا ما يفسر لنا سياسة المستعمرين.
« كان الاستعمار يتوسل بكل سفالات الأرض ليوطد سلطانه، ويمتص دماء الناس، ولا يرى في ذلك انحرافاً فالغاية تبرر الوسيلة، ولا يهم عندهم أن تكون الغاية ذاتها نظيفة » [7].
وهذا ما أشار إليه الشاعر العربي إذ يقول: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ورغم ذلك كله فقد فتن بعض المسلمين في القرن الحالي بحضارة أوربا وظنوا أنها ذات ركائز تصلح لأن يُقتدى بها، ونسي كثير منهم أن يميزوا بين التقدم المادي والتخلف العقدي والأخلاقي، فتنوا ببعض ما يبدو من صدق وأمانة حيناً، لأنها عند القوم تؤمن لهم ثقة ووقتاً، إلا أن أخلاقهم هذه ستتغير إذا لاحت منفعة أشد، ومصلحة أقوى.
فالأخلاق النفعية سمة بارزة من سمات الجاهلية المعاصرة، بينما كان للعرب في جاهليتهم بعض الترفع والإيثار كإغاثة الملهوف ونجدة الصريخ والذب عن حرمات الجيران.
الغاية لا تبرر الوسيلة:
هذا مبدأ إسلامي أصيل، إذ لا بد أن تكون الوسائل الأخلاقية سامية كالغايات تماماً ولابد أن يكون العمل خالصاً وصواباً حتى يتقبل، ولهذا قال الأصوليون: الغاية لا تبرر الوسيلة، واتخذوا ذلك قاعدة تشريعية مستدلين بقوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابتَغُوا إلَيهِ الوَسِيلَةَ وجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ) [المائدة: 35] فالآية ترسم طريق الفلاح بأن يتقي المسلم ريه بترك المحرمات وأن يتقرب إليه - تعالى -بأداء الواجبات والتمسك بالقيم الأخلاقية، ولا يمكن التقرب إليه بالمحرمات.
[8] نتائج وملاحظات:
1- المعروف أن المجتمعات الإسلامية تتميز بالمحبة والتآخي والإخلاص، ومقاومة الأهواء.
وأن الإيثار والتضحية والشهامة من أخص أخلاق العرب في جاهليتهم وإسلامهم..
وأن الأنانية والنفعية أخلاق وافدة على أمتنا قد غزتها بعد أن ضعف وازع العقيدة ودواعي الإخلاص.
2- النفعية أخلاق غربية بنيت على مذاهب فلسفية تنسجم مع تطلعات أصحابها ومعتقداتهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان، وهي أخلاق دخيلة غريبة على أمتنا.
3- لابد للمربين والدعاة إلى الله أن يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة من خلال التربية والتوجيهº بإبراز النماذج الرائدة عند سلف هذه الأمة، وأن يضرب الدعاة والمربون من واقع حياتهم أمثلة صادقة بالمعايشة والقدوة الحسنة.
4- إن النفعيين والانتهازيين خطرهم جسيم، في المؤسسات التجارية والعلمية والدعوية، لأنهم سيتجاوزون كل القيم في سبيل مطامعهم وطموحاتهم، ومن تمعن في أحداث التاريخ أسعفته الشواهد، والعاقل من اتعظ بغيره، والحذر يجنب صاحبه المزالق والندم قبل فوات الأوان.
5- لابد أن يتميز الداعية إلى الله، والمربي الجاد بصفات الإيثار والتضحية وكرم النفس بعيداً عن الجشع والمراوغة والاحتيال، عسى أن يساهم في البناء العقدي والأخلاقي المتماسك لهذه الأمة بإذنه - تعالى -.
–––––––––––––––––––––––
(1) الفتاوى 11/381.
(2) العلمانية د سفر الحوالي ص 410.
(3) انظر الاتجاه النفعي: من كتاب الاتجاه الأخلاق في الإسلام د مقداد يالجن ص 27-39.
(4) تجديد الفلسفة: جون ديوي ص 273 نقلاً عن الاتجاه الأخلاقي في الإسلام مقداد يالجن.
(5) جاهلية القرن العشرين: الأستاذ محمد قطب ص 159-162.
(6) بروتوكولات حكماء صهيون: البروتوكول الأول ص 32 ط 2.
(7) جاهلية القرن العشرين ص 153.
(8) الاتجاه الأخلاقي في الإسلام:مقداد يالجن 296.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد