بسم الله الرحمن الرحيم
من الأشياء التي ظهرت في واقع العلم اليوم ومن قديم بروز المذهب الظاهري، واستقراره على عرشِ الظهور، والكلامُ على المذهب الظاهري من جهتين اثنتين:
الأولى: كلامُ الفقهاءِ فيه، ومدى احتجاجهم به، واعتدادهم بخلافه.
الثانية: المآخذُ التي أُخِذَت عليهِ، والنَّقَدَاتُ المُوَجَّهةُ إليه.
فأما الجهةُ الأولى: فإن للفقهاءِ في المذهب الظاهري والاعتداد بخلافهم قولين (1)، هما:
الأول: عدمُ الاعتداد بخلافهم، وذهبَ إليه جماعةٌ من الفقهاءِ، منهم: أبو إسحاق الإسفرايني، وإمام الحرمين، والغزَّالي (2). بل قال القاضي أبو بكر: إني لا أعدٌّهم من علماء الأمة ولا أبالي بخلافهم ولا وفاقهم. وقال أيضاً: إن أصحاب الظاهر ليسوا من علماء الشريعة وإنما هم نقلة إن ظهرت الثقة. ا، هـ (3). قال الإمامُ النَّوَويُ - يرحمه الله -: إنَّ مخالفةَ داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون (4).
الثاني: اعتباره مطلقاً، وذهبَ إليه جماعةٌ، منهم: أبو منصور البغدادي، وابنُ الصلاح (5). فـ (المحققون لا يُقيمون لخلاف الظاهرية وزناً، لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوصُ بِعُشرِ مِعشارها) (6).
فائدةٌ: إمامُ المذهب الظاهري المُنشيءُ له داود بن علي بن خلف (الظاهري) كان شافعياً، وله تعصٌّبٌ للشافعي - يرحمه الله - (7).
تنبيهٌ: لمذهب الظاهرية إمامان مشهوران: أولهما المُنشيءُ له، وهو داود بن عليٍ,، وسبقَ آنفاً. ثانيهما المُحيي له، وهو أبو محمد ابن حزمٍ, - يرحمه الله - وهو شافعيٌ أيضاً (8)، وإليه يُنسَبُ القول بنفي القياس كلِّه خفيِّه وجليِّه، دون داودº إلا أن الإمام السٌّبكي - يرحمه الله - ذهب إلى أنه أي: داود ينكرُ القياسَ جملةً وإن لم يُصرِّح بذلك (9).
فائدة: هذان العالمان الظاهريان حُكي عنهما زلاتٌ خطيرة في المعتقد: فأما الأول داود بن علي: فقد حُكي عنه القول بخلق القرآن (10). وأما الثاني ابن حزم: فقد قال عنه ابن عبد الهادي: جهمي ضال (11).
و أما الجهةُ الثانية: فالمآخذُ التي أُخِذَت عليهِ، والنَّقَدَاتُ المُوَجَّهةُ إليه، وهي ثلاثةُ مآخذ:
المأخذُ الأول: أن إمامَ المذهب ليسَ مجتهداً مُستقلاً، بل هو منتسبٌ إلى مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -.و من المتقرِّر لدى الفقهاء والأصوليين أن الفقيه لا يُعتبَر له مذهبٌ إلا إذا كان مجتهداً اجتهاداً مستقلاً، ولمعرفة المجتهد المستقل فلا بدَّ من دِرايةٍ, لحقيقتين: الأولى: حدٌّهُ، فهو: الذي يَستقلٌّ بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غيرِ تقليد وتقيد بمذهب أحد (12).الثانية: شروطه، فقد ذكرها الفقهاءُ والأصوليون على وجهٍ, متفقٍ, عليه بينهم، وهي: 1.معرفةُ الكتاب، والمُرادُ: إدراك آيات الكتاب، والإلمامُ بمعانيها، والمُتَعَيِّنُ آيات الأحكام (13). 2. معرفةُ السنة، كالسابق في حدِّ المُراد (14). 3. معرفة اللغة العربية، والمُشترَطُ العلمُ بما يتعلَّقُ بنصوص الأحكام. قال الطٌّوفي - يرحمه الله - [شرح مختصر الروضة 3/581]: ويُشترَط أن يعرف من النحو واللغة ما يكفيه في معرفة في معرفة ما يتعلَّق بالكتاب والسنة مِن: نصٍّ,، وظاهرٍ, ومجمَلٍ,، وحقيقةٍ, ومجازٍ,، وعامٍ, وخاص، ومُطلَقٍ, ومقيَّدٍ,، ودليل الخطاب ونحوه كـ: فحوى الخطاب، ولحنه، ومفهومه، لأن بعضَ الأحكام يتعلَّق بذلك ويتوقَّف عليه توقفاً ضرورياً. ا، هـ (15). 4. معرفة مواقع الأجماع، وذلك لأمرين: أ التحرٌّز من القول بما يُخالفه، ويُلحق بذلك: إحداثُ قولٍ, ثالث. ب التحرٌّز من القول بالخلاف أو القول المهجور المتروك (16). فائدة: قال الإمامُ الزركشي - يرحمه الله - [البحر المحيط 6/201]: ولابُدَّ معَ ذلك أن يعرفَ الاختلاف. ا، هـ. 5. معرفة الناسخ والمنسوخ، حتى لا يستدل بنصٍّ, منسوخ (17). 6. معرفةُ أصول الجرح والتعديل. قال المرداوي - يرحمه الله - [التحبير 8/3875]: لكن يكفي التعويلُ في هذه الأمور كلها في هذه الأزمنة على كلام أئمة الحديث كأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والدارقُطني، ونحوهمº لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجازَ الأخذ بقولهم كما نأخذ بقولِ المُقَيِّمين في القيم. ا، هـ (18). 7. معرفة أصول الفقه (19).
فائدتان مُتَمِّمَتان:
الأولى: قال الصَيرَفي - يرحمه الله -: ومَن عرَفَ هذه العلوم فهو في المرتبة العليا، ومن قَصر عنه فمقدارُه ما أحسن، ولن يجوز أن يُحيطَ بجميع هذه العلوم أحدٌ غير النبي وهو مُتفرِّقٌ في جملتهم. والغرضُ الّلازم مِن علمِ وصفت ما لا يقدرُ العبد بترك فعله، وكلما ازداد علماً ازداد منـزلةً. قال - تعالى -: {و فَوقَ كلِّ ذي علمٍ, عليمٍ,}. اهـ [البحرُ المحيط 6/203].
الثانية: قال الشوكاني - يرحمه الله -: ومن جعل المقدار المُحتاجَ إليه من هذه الفنون هو معرفةُ مُختصَراُها، أو كتابٍ, متوسِّطٍ, من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعدَ، بل الاستكثارُ من الممارسة لها والتوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوةً في البحثِ، وبصراً في الاستخراج، وبصيرةً في حصول مطلوبه. والحاصلُ: أنَّه لابُدَّ أن تَثبُتَ له الملَكَةُ القوية في هذه العلوم، وإنما تثبُتُ هذه الملَكَةُ بطولِ المُمَارَسة، وكثرة المُلازمة لشيوخ هذا الفن. ا، هـ [إرشاد الفحول ص 234]. قال الإمامُ ابنُ الصلاح - يرحمه الله -: فمَن جمعَ هذه الفضائل فهو المفتي المستقل الذي يتأدَّى به فرضُ الكفاية، ولن يكون إلا مجتهداً مستقلاً (20). ورأسُ المذهب الظاهري ليس مجتهداً اجتهاداً مستقلاً، بل هو منتسبٌ في مذهبِ إمامه الشافعي - يرحمهما الله -. وعليه: فالتعويلُ عليه على أنه مجتهدٌ مستقلٌ ليس في موازين الاجتهاد في شيءٍ, ألبتَّة، وبيانُ هذا ظاهرٌ لكلِ عارفٍ, بمنازع الفقهاء المجتهدين في تقرير أقوالهم ومذاهبهم، فليس لرأس الظاهرية استقلالٌ في أصولٍ, ولا في قواعدَ ولا في فروعٍ, مبنيةٍ, على ذينك الأمرين السابقين كغيره من المجتهدين، بل قُصارى الجَهد أنه بناءٌ على ظواهر النصوص والأخبار، وكلُّ يقدرُ على الأخذ بالظواهر، وليس الفقه إلا الفهم، والانتزاعُ للأحكام من الظواهر ليس من الفقه لغةً واصطلاحاً في شيءٍ,.
المأخذُ الثاني: آحاديَّةُ نقلِه، فإنَّ المُطَّلِعَ على تاريخ المذهب الظاهري ونشأته يُبصرُ أنه لم يَقُم إلا على سندٍ, أحاديٍ,، والآحادي ظني، خلافا للمذاهب الأربعة فمتواترةُ النقل.
المأخذُ الثالث: قصورُ المذهب الظاهري عن الحفظ المعتبر، ذلك أن إثبات كون مذهب (ما) محفوظا هو أن ينجمع فيه شيئان: الأول: حفظٌ لعلوم المذهب (الفقهية)، وعلومه المعروفة ثلاثة: أولها: علم أصول الفقه. ثانيها: علم قواعد الفقه. ثالثها: علم الفروع الفقهية. الثاني: حفظٌ لمسائل تلك العلوم في الجملة، بحيث لا يعزُبُ عن حفظها سوى القليل، فالعبادات مثلا لابد أن تكون محفوظة من جهات ستٍ,: الأولى: شروطها. الثانية: أركانها. الثالثة: واجباتها. الرابعة: سننها ومستحباتها. الخامسة: مكروهاتها. السادسة: مبطلاتها. ثم لا تصح تلك الست الا بتوفر ثلاثة أشياء فيها: أولها: عدٌّها وضبطها. ثانيها: ذكر قيودها. ثالثها: ذكر الإستثناءات إن وُجِدَت. فهذا الحفظ الجُملِي لا تكاد تراه منثوراً في كتب المذهب الظاهري، معَ كونه لا يكاد يعرف الا من خلال كتاب (المحلى) لأبي محمد ابن حزم - يرحمه الله - هذا في مسائل الفروع، وفي ألأصول النٌّبَذِ له، والاحكام، وجميعها لا تحقق الطلبة!!. وعلى ما سبق فانه لا يستريبُ عارفٌ بالمذهب الظاهري أنه ليس من المذاهب المحفوظة إلى يومنا، وقد بين حماعة ذلك، ومنهم الشعراني - رحمه الله - في: (الميزان)، حيث قرر اندراسة بعد القرن الخامس. وإن كان مُحيي المذهب الظاهري (ابنُ حزمٍ,) يأخذُ بأقوال الفقهاء مما ترجَّحَ عنده بناءً على قوة الدليل (النقلي)، فليسَ مستقلاً برأيه واستنباطاته على حَسبِ القوانين الموضوعة في الاستنباط والمحررة في محالِّها من أصول الفقه عند الفقهاء أجمع (21). بخلاف المذاهب الأربعة المتبوعة أدام الله رايتها عاليةً رفيعة فلا تجدُ علماءها إلا قد حققوا ونقَّحوا، وهذبوا وو تمموا، في جميع تلك العلوم، بل لم يتركوا منها مسائلَ النٌّدرَةِ إلا وأتوا بها على سابلة (الافتراض) وافترضوا التحرير لها، وحُقَّ لها بذلك أن تكون عامرةً زماناً ومكاناً. فإنها حُفِظَت، ولأجل ذا كان التعويلُ عليها بعد استقرارها، واندراس غيرها، ولا يُنكرُ ذلك إلا جاهل أو مكابر!. يقول ابن رجبٍ, الحنبلي - يرحمه الله -: فإن قيل: نحنُ نُسلِّم منعَ عموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد لما يُفضي ذلك إلى أعظم الفساد. لكن لا نسلم منع تقليد إمامٍ, مُتّبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين. قيل: قد نبهنا على علةِ المنع من ذلك وهو: أن مذاهبَ غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يُريدوه، وليس لمذاهبهم من يذُبُ عنها، وينبه على ما يقع من الخلل فيها، بخلاف هذه المذاهب المشهورة. فإن قيلَ: فما تقولون في مذهب إمام غيرهم قد دُوِّنَ مذهبه وضُبِط وحفظ كما حفظ مذاهب هؤلاء؟. قيل: أولاً هذا لا يُعلم وجوده الآن. وإن فُرِضَ وقوعه الآن وسُلِّمَ جواز اتباعه والانتساب إليه، فإنه لا يجوزُ ذلك إلا لمن أظهر الانتسابَ إليه والفُتيا بقوله والذب عن مذهبه …. ا. هـ (22). وبعد: فهذه مآخذُ على المذهب الظاهري، أُتيَ بها على وجهٍ, مُوجَزٍ, مع أن هناك آفات أخر هي من دواعي عدم التوثق به وبما فيه، وتبيانٌ لشُبهةٍ, تَرِدُ أو شُبهات، يُؤتى عليها جمعاً ودراسة ونقضاً في طرح آتٍ, إن شاءَ الله، والله الموفق لا ربَّ سواه، لطف الله بنا وهو اللطيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: طبقات الشافعية 2/45 وحكى قولاً ثالثاً في خلافهم، البحر المحيط 4/471، سير أعلام النبلاء 13/104. (2) انظر: البحر المحيط 4/471-472.
(3) طبقات الشافعية 2/45.
(4) البحرُ المحيط 4/472.
(5) طبقات الشافعية 2/45، البحر المحيط 4/473.
(6) البحر المحيط 4/472، نقلاً عن إمام الحرمين.
(7) طبقات الشافعية 2/43.
(8) وفي لسان الميزان [2/519] كلامٌ لابن أبي حاتمٍ, عنه، قال الحافظُ ابنُ حجر [لسان الميزان 4/229]: واشتغل في صباه بالأدب، والمنطق، والعربية. وقال الشعر، وترسَّلَ، ثم أقبل على العلم، فقرأ الموطأ وغيره، ثم تحوَّل شافعياً، فمضى على ذلك وقت، ثم انتقل إلى مذهب الظاهر، وتعصَّبَ له، وصنف فيه، ورد على مخالفته [كذا، ولعلها: مخالفيه]. وانظر أيضاً [العواصم من القواصم، لابن العربي ص 248 259، ت: د. عمار الطالبي].
(9) طبقات الشافعية 2/46، سير أعلام النبلاء 13/104. فائدة: ذكر الذهبي كتاباً لابن حزم في نفي القياس [السير 8/196] اسمه: النكت الموجزة في نفي الرأي والقياس والتعليل والتقليد.
(10) انظر: طبقات الشافعية 2/43، لسان الميزان 2/518، سير أعلام النبلاء 13/99.
(11) انظر: الصارم المُنكي.
(12) أدب المُفتي والمُستفتي لابن الصلاح ص 87.
(13) انظر: المُستصفى للغزَّالي 2/350، المحصول لفخر الدين الرازي 2/33، البحر المحيط للزركشي 6/199.
(14) انظر: البحر المحيط 6/200.
(15) انظر: البحر المحيط 6/202، التحبير للمرداوي 8/3875.
(16) انظر: المستصفى 2/351، البحر المحيط 6/201.
(17) انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3873.
(18) انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3875.
(19) انظر: المحصول 2/36، إرشاد الفحول للشوكاني ص 234، التحبير 8/3870. قال أبو المظفر السمعاني [قواطع الأدلة 1/18]: فإن من لم يعرف أصول معاني الفقه لم ينجُ من مواقع التقليد، وعُدَّ من جملة العوام. ا، هـ. (20) أدب المفتي والمستفتي، ص 87.
(21) انظر كلاماً للإمام ابن رجب في [الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة] ص 3637.
(22) الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ص 33 34.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد