بسم الله الرحمن الرحيم
- د. عبد الله البوصي
- طلبة العلم يلاحقون أفراد المسائل، ويظنّون أنفسهم علماء.
- التقليد الأعمى أخرج نسخاً مكرّرة من \"الشيخ\".
- كثُرت النوازل، وليس لدينا فقهاء بالقدر الكافي.
- بناء الملكة الفقهية يغني عن حفظ آلاف الصفحات.
- الاجتهاد الجماعي أحدث \"مناخاً فقهياً جيداً\" في العالم الإسلامي.
أكد الدكتور عبد الله البوصي -الأستاذ بقسم الفقه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة في الرياض - أهمية تكوين الملكة الفقهيّة بوصفها فناً ومهارة تُواجه بها النوازل، التي كثرت في هذا العصر.
وقال البوصي: إنّ تدني مستوى الملكة الفقهيّة كان من شأنه إبراز عدد من غير المؤهلين في مجال الفقه، كما تسبب من جانب آخر في بقاء مسائل فقهيّة دون بحثº لعدم وجود الفقيه الكفء والمتمكّن.
وانتقد البوصي الطريقة المتبعة في تدريس الفقه، مشيراً إلى أنها تحفّظ الطلاب أعيان المسائل الفقهيّة، متجاهلة القواعد والضوابط والفروق الفقهيّة، مما أنتج جيلاً من الطلاب يلاحق أفراد المسائل الفقهيّة، ويظنّون أنهم بذلك يدركون العلم.
بدايةً..ماذا يعني مصطلح (الملكة الفقهيّة)؟
• هي القدرة العقليّة، والمهارات الذهنيّة، التي تؤهل صاحبها لفهم كلام الفقهاء بشكل صحيح، كما تؤهّله للترجيح بين أقوال العلماء، ومعرفة الراجح من غيره، كما تؤهله لتطبيق أحكام الفقه على النوازل الفقهية المعاصرة.
ما المؤهلات والقدرات التي ينبغي توافرها لتكوين الملكة الفقهيّة؟
• القدرات والمؤهلات المطلوبة هي: مهارة التفكير والتحليل، والتفريع والتقسيم والاستنباط، ومهارة الإبداع والتجديد والابتكار، والعبقرية، وسرعة البديهة والفهم، ومهارة النقد الهادف، والحوار والإقناع، والقدرة على الصياغة، وإيصال الفكرة إلى الآخرين، ومهارة القدرة على استخراج القواعد والضوابط، ومعرفة الفروق بين المتشابهات.
وكيف يمكن اكتساب هذه القدرات؟
• الطريق إلى اكتساب هذه المهارات هو التدرب عليها من خلال أخذ دورات متخصصة، أو قراءة كتب متخصصة وممارستها، أو سماع أشرطة متخصصة، وممارسة ما فيها عملياً، وأنصح بالدورات المتخصصةº لأنها تعلّم وتدرّب في الوقت نفسه من خلال فرق العمل، وأهم قضية في هذا الموضوع هو الرغبة الصادقة من المتعلم في تنمية هذه الملكات بأي طريقة شاء، ولو كان بالتعلم الذاتي من خلال تمارين يضعها لنفسه تنمي هذه الملكة، وحسب معلومات المتخصصين فإن الإنسان لا يستخدم من قدراته إلا 3% فقطº مما يعني أنه يمكن أن يزيد قدراته العقلية الحالية أكثر من ثلاثين ضعفاً، وأحدث نظرية في مجال الذكاء والعبقرية تقول: إن الإنسان يولد عبقرياً لكن يختلف الناس في توظيف طاقات العقل فقط، والواقع يشهد بهذاº لأن من الناس من طوّر نفسه خلال فترة وجيزة حتى أصبح من المتميزين.
الطريقة المتبعة في تدريس الفقه ومسائله، في الكليّات الشرعيّة، والمساجد، هل تخرج (الفقيه) فعلاً؟
• الطريقة المتبعة الشائعة في تدريس الفقه هي طريقة تعلم المسائل الفقهية فقط، والفقه له طريقتان في تدريسه:
الأولى: الطريقة الجزئية أو الفروعية نسبة إلى الفروع- وهذه تُعنى بتحفيظ الطلاب مسائل محددة منصوص عليها في المتن الفقهي المحدد، وهذه تخرج فقيهاً حافظاً لأعيان المسائل، ولا تخرّج فقيهاً قادراً على الاستنباط والقياس.
والطريقة الثانية: الطريقة الكلية التي تُعنى بتدريس الفروع من خلال المتن، لكن مع ربطه بقواعده وضوابطه، مع مراعاة الفروق الفقهيّة، ومعرفة حكم التشريع ومقاصده في الباب الفقهي، وأسرار التشريع في المسائل الفقهيّة في الباب بالتفصيل، مع معرفة التقاسيم والأنواع والجوامع من أسباب وشروط وأركان وموانع ومفسدات، وغيرها، والمخارج الشرعيّة، والألغاز الفقهيّة في الباب، مع معرفة النوازل الفقهيّة في الباب، وتدريب الطلاب على معرفة حكمها، وهذه الطريقة تخرّج فقيهاً مستوعباً للفقه بطريقة كلية شموليّة، مع قدرته على الاستنباط والتخريج والقياس.
دراسة الفقه ضمن المتون المذهبيّة، هل تنمّي الملكة الفقهيّة أم تقتلها؟
• طريقة دراسة الفقه من خلال المتون المذهبيّة ضروريّة للتفقهº لأنها تعطي الطالب دربة على الفقه، وخاصة إذا دُرست بالطريقة الكليّة الشموليّة لدراسة الفقه التي تحدثنا عنها سابقاً.
ما السبل المناسب استعمالها من قبل الملقي، من أجل تعزيز الملكة الفقهيّة لدى المتلقين؟
• يحتاج الملقي أن يركّز في تنمية العقل الفقهي، ولا يكون التركيز في الحفظ فقط، مثل طرح الألغاز الفقهية، وأن يطلب الملقي من الحضور الاستدلال على مسألة، أو استنباط حكم من دليل، أو إرجاع فرع لقاعدة، أو تفريع على قاعدة، أو استخراج جامع وضابط لمسائل متشابهة، أو طلب معرفة الفرق بين المتشابه من المسائل، ونحو ذلكº مما ينمّي الفهم، وليس الحفظ فقطº لأن الفقه مبني على الفهم، بل هو مدلوله اللّغوي.
الحفظ.. أم الفهم؟! كيف يمكن تطويع هذه المعادلة لتكون في صالح طالب العلم؟
العلم عند العلماء نوعان: علم بالفعل، وعلم بالقوة القريبة. فالأول: أن يكون عالماً بحفظه وفهمه، ويسمى هذا الصنف بالعلماء. والثاني: علم بالقوة القريبة بمعنى أن لديه القدرة على الاجتهاد والنظر بفهمه الجيد، لكن ليس لديه محفوظات ومسائل يستحضر حكمها، فكلما سئل قال: سوف أراجع الكتب، وهذا الصنف يسمى بالباحث، وليس بالعالمº ولذا لا يستطيع التصدّر للفتوى، وبه يتبين أن الحفظ مهم وضروري، وكذلك الفهم، فهما أمران مهمان لا غنى عنهما، وللحفظ طرائقه ووسائله، وكتبه المناسبة للحفظ، فيستعين الطالب بمن عرف بهذا الجانب، واهتم به، فيحفظ عنده ما يتيسر من كتب أهل العلم، وفي مقدمتها كتاب الله، وأحاديث الأحكام، ونحو ذلك، ولا يهمل الفهم، بل يتعلمه جنباً إلى جنب من خلال الوسائل السابقة الذكر.
كيف تقدر أهمية الملكة الفقهيّة في هذا العصر خصوصاً؟
الملكة الفقهيّة ضروريّة في هذا العصر لقلة الفقهاء أولاً، ولكثرة النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى تخريج وقياس صحيحين ليتبين من خلالهما قدرة الإسلام على التواؤم مع مستجدات الحياة من دون الإخلال بثوابت الإسلام وأصوله.
هل توافق على أن الاطلاع على الواقع، والتعرف إلى الثقافات والفنون الأخرى ينمي القدرات المعرفية لدى طلبة العلم الشرعي؟
الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، بل يحرم الاجتهاد في مسألة، لم يتصورها الفقيه تصوراً صحيحاً، وبناء على ذلك، فالفقيه المطلع على مجريات الأمور، العارف بواقعه أقدر على الحكم في مثل هذه المسائل الجديدة، والنوازل المعاصرة.
ما الذي خسرناه من تدني مستوى الملكة الفقهيّة؟
تدني مستوى الملكة الفقهية أفرز عدة إفرازات، منها: بروز مَن ليس أهلاً، وثانياً بقاء مسائل فقهيّة لم تُبحث فقهياً، ولم يعرف الناس حكم الله فيهاº لقلة الفقهاء المتمكّنين، مع كثرة النوازل المتلاحقة.
ما أهمية دراسة مقاصد التشريع؟ ولماذا التقصير في تدريسها وتضمينها في العلوم الشرعيّة؟
دراسة مقاصد التشريع ضرورية مهمة في تكوين الملكة الفقهيّةº لأنه يتبين بها مراد الشارع الحكيم، وبناء عليه تكون الاجتهادات متسقة مع هذه المقاصد لا تخرج عنها، فالحفاظ على العِرض مثلاً مقصد شرعي مهم، فإذا فهم جيداً شرع لهذا وسائل تكميليّة للحفاظ عليه، وتتفق معه، والسبب في التقصير في دراستها التقليد الأعمىº إذ إن الطالب يتأثر بشيخه في عدم تدريسها، بل يكون نسخة مكرّرة من شيخه، ولا يحرص على تجديد الدين، وعلى الإبداع في الطرح والتعليم.
ما الفوائد التي نستفيدها من بناء الملكة الفقهيّة، سواء على الفرد أو على الفقه؟
• بناء الملكة الفقهية يفيد الفرد في تكوينه العلمي، فلا يحتاج معها إلى حفظ كل المسائل التي ذكرها العلماء في الآلاف المؤلفة من صفحات كتب الفقهº وذلك لوجود الملكة التي يستطيع معها معرفة هذه المسائل، ولو لم يقرأهاº لأن العلوم الشرعيّة مبنيّة على قواعد وضوابط، وهي مفيدة للمجتمع لتنتج أحكاماً شرعية صحيحة على مستجدات الحياة العصرية الكثيرة المتلاحقة.
بحكم قربكم من طلبة العلم، كيف تقوّم وضع الطلبة في هذا الجانب؟ وما تقويمك للجو الفقهي بشكل عام؟
طلبة العلم يلاحقون أفراد مسائل العلم، ويظنون أنهم بهذا يدركون العلم، وهذا خطأº لأن العلم الحقيقي هو قواعد وضوابط وجوامع وكليات، وليس مجرد مسائل متناثرة، فهم مثل من يلاحق جداول الماء ليشرب منها بعد أن تكدّرت من الجريان والشوائب في طريقها، ويترك الشرب من النبع الصافي، وهو ما نعني به القواعد والضوابط.
أما المناخ الفقهي العام فهو جيد في الجملة، وخاصة انتشار فكرة الاجتهاد الجماعي من خلال المجامع الفقهية، واللجان الشرعيّة في البنوك، لكن يحتاج إلى تطوير، كما يحتاج إلى تفريغ الطاقات العلميّة للفقه والتفقّه، وتعليم الفقه ونشره، كما نحتاج إلى تفريغ طلبة العلم للتعلم الفقهي المنهجي الصحيح بوضع أوقات لتفرغ علماء وطلبة العلم لهذا، ولتكفيهم عناء البحث عن لقمة العيش.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد