سـتون قد مرَّت مـرورَ السحاب * * * مـرَّت وأرجـو اليوم حُسنَ المآب
ستون من عمري انقضت وانتهى * * *- حين انتهت- عهدُ الصِّبا والشباب
وقـد وهَـى العزمُ وكم صنتُه- * * * لـكنَّ طـولَ المكث يَفري الإهاب
لـم أدر كيف اجتزتُ ذاك المدى * * * وكـيف جاوزتُ جميعَ الصعاب!؟
وكـيف أصـبحتُ على شـاطئ * * * الـركبُ فيه كلٌّهم في اضطراب!؟
وكـلٌّ فـردٍ, خـائـفٌ واجـفٌ * * * مـن أن يُـنادَى بـغـتةً للحساب
مـا كـان ظني أن أرى عارضي * * * وشـعرَ رأسي يـكتسي بالخضاب
وها هـو اليـوم عـلا مَفـرقي * * * فـهل أُواري مَفرقـي بالحجاب!؟
كـنتُ أرى الـستين مـن عاشها * * * كـأنما جـاوزَ عـمرَ العُـقـاب
لـكنني الـيوم وقـد عـشتُـها * * * لـم أر فيـهـا أيّ شـيء عُجاب
اليـومَ كـالأمس الذي قد مـضى * * * والغـدُ مـثلُ اليوم دون ارتياب
والـشهـرُ مـا غـادر إلا أتـى * * * والـعامُ مـا سـافـر إلا وآب
والـمرءُ يـعدو ثـم يـعدو فـلا * * * يـحصدُ بـعد الجهد إلا السراب
أمـضي إلـى مـا أبتغي جاهداً * * * والـظنٌّ أني فـي طريق الذهاب
لكـنـني قـبـل بـلوغ المـنى * * * أبـصرُ أنـي فـي طريق الإياب
بـالأمـس فارقتُ رياضي وكم * * * سعـدتُ فـيها بالجنى المستطاب
فـارقتُـها والقلب فـي غـصة * * * مـما سألقى مـن جوىً واغتراب
فـارقـتها والـقـلب ثـاوٍ, بـها * * * يـرسلُ لـي فـي كل حينٍ, كتاب
حـاولـتُ أن أسـلوَ كـي أتّقي * * * غـصّات قلبي والجوى والعتاب
لـكنها صـارت حـديثي فـلا * * * أنـطق إلا واسـمها في خطاب
ولا أداري غـيـرَ شـوقي لها * * * ولا أنـاجي غـيرها مـن رواب
ألمـح بـالعيـنين أطـيارهـا * * * أشـم رغـم البـعد نفحَ التراب
والبـلبلُ الغِـرِّيـدُ أرنـو لـه * * * يـطوف مـا بين الرٌّبى والشعاب
يـبوحُ بـالشوق لأزهـارهـا * * * يُبـدي بـه فـي لوعةٍ, وارتقاب
كم سرتُ في الأرض وكم أشرقت * * * نـفسي بتحقيق الأمـاني العِذاب
وكـم تـشوَّقـتُ لـما أشـتهي * * * مـن مطعم أو مـلبس أو شراب
وكـم بـذلت الجهد كي ينجلي * * * هـمٌّ حـزينٍ, أو مريضٍ, مصاب
وكـم تـشوّقتُ لـنشر الـهدَى * * * كي ينتهي في الأرض شرعُ الذئاب
وكـم تحـرَّقتُ وقـد أبصرت * * * عـيناي ظـلماً فـاضحاً وانتهاب
وسـرتُ أدعـو راغـباً راجياً * * * أن يـنعمَ الـناسُ بـنور الكتاب
فـلا أرى الجَـورَ ولا أهـلَه * * * ولا أرى اسـتعـلاءَ ظُـفرٍ, وناب
وكـم تـحملتُ صنوفَ الأذى * * * وكـم تـجشّمتُ طـريق العذاب
وكـم حُـرمتُ الـخيرَ لكنني * * * صـبرتُ حـتى جاءني بانسكاب
وكم شحذت العزمَ حتى وهت * * * كـفّي فـلم أفلح- وماد الركاب
وكـم سهرتُ الليلَ مستـلهماً * * * مـن بدره فـيما أصـوغُ اللٌّباب
وكم رأيتُ الشمسَ فـي مهدها * * * وكـم شهدتُ الشمسَ عند الغياب
وكـم ركبـت البـحر مستأنساً * * * بـألطف الأنـسام وسـط العُباب
والقـلبَ كم أمسكتُ خوفاً وقـد * * * جـاوزتُ في الجوِّ رُكامَ السحاب
وكـلٌّ مـا مـرَّ ومـا شاقـني * * * أو سـاءنـي أو جـرَّني للتباب
راح كـطيفٍ, لاح ثـم أمَّـحى * * * أو كـنسيمٍ, مـرَّ فـوق الهضاب
وطـالت الأيـامُ فـي ناظري * * * وضاق من حولي فسيحُ الرحاب
ولـم يـعد زادي كما أشـتهي * * * حـتى لَـوَ انّ الزاد شهدٌ مُذاب
وأصـبح الجـسمُ ثقيلَ الخطا * * * إن سار بعضَ الخطو جَفَّ اللعاب
وكـاد ظـهري يـنحني عوده * * * مـن طولِ ما عاناه قلبي ولاب
والـيوم فـي الستين لي وقفةٌ * * * أنـثرُ فـيها كلّ ما في الوطاب
وأنـتقي الـزهر وأمـشي به * * * وأنـشر الخـيرَ وعِطرَ الملاب
وأتـركُ الأشـواكَ ما لي بها * * * أمـا كـفاني وخـزُها كالحراب
هـذا طـريقي لا أرى غـيره * * * يُنـقذُني مـن كـل دربٍ, يباب
وسـوف أمـضي فيه لا أنثني * * * حـتى أُوارى فـي ثنايا التراب
هـذا الـذي أرجـوه لـكنني * * * راضٍ, بـما قُـدّرّ لي في الكتاب
أنـيـب للِـه وأعـنـو لــه * * * والله يعـطي فـضلَه من أناب