هلموا إلى رياض الجنة ، حلق الذكر ، الجامعات الشرعية المفتوحة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت المساجد والكتاتيب التابعة لها، والمعاهد، والكليات، والجامعات التي أنشئت فيها هي المحاضن لنشء المسلمين، ولتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، ولتخريج العلماء، والقضاة، والمصلحين.

استمر هذا الأمر إلى أن تآمر الكفار وعملاؤهم من المنتسبين إلى الإسلام على إسقاط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية، وعقب ذلك تقسيم دولة الإسلام إلى دويلات صغيرة، وممالك هزيلة، تقاسمها الكفار والمستعمرون، حكموا بعضها بأنفسهم، وأنابوا غيرهم في حكم البعض الآخر.

ثم ما فتئوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، حيث أقصوا الإسلام عن معظم مناحي الحياة، سيما في جانب السياسة، والحكم، والاقتصاد، ومناهج التربية والتعليم.

لقد فطن بعض الأخيار لذلك فحافظوا على بعض دور التعليم الدينية، وأنشاؤا غيرها، مستفيدين من بعض الأوقاف الإسلامية، وحاضين ومشجعين الموسرين على التبرع والإنفاق لتسييرها، واستمر التعليم الديني موازياً للتعليم الرسمي، مع هضم حقوقهم، والتضييق عليهم، وعدم تعيينهم في الوظائف الحكومية المتميزة وغير المتميزة.

وقد استمر هذا الوضع بعد أن نالت الدول الإسلامية استقلالها الاسميº لأن المستعمر لم يخرج إلا بعد أن اطمئن على وجود كادر ممن ربوهم على أيديهم، ووفق مناهجهم عن طريق الابتعاث وغيره.

مما ساعد على استمرار المدارس، والمعاهد، والجامعات الإسلامية فترة من الزمان، اعتمادهم بعد الله على أنفسهم في تمويلها وإدارتها، وعدم قبول شيء من العون الحكومي.

شعر المستغربون وأعداء الدين بخطورة هذا النوع من التعليم عليهم، فأوعزوا للمسئولين بطرق مباشرة وغير مباشرة بتوحيد مناهج التعليم في البلاد وتوحيد الإشراف عليها، ولم يكن ذلك شاملاً للمدارس الإرسالية والكنسية وإنما فصِّل تفصيلاً على المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية.

كانت الضربة القاضية على ذلك عند شروع أمريكا وحلفائها في حربهم الصليبية على الإسلام، التي بدأتها بحرب الخليج الأولى, وبغزو أفغانستان, والعراق، وتدجين كل حكام المسلمين، حيث صدرت التعليمات لهم بإغلاق جميع المدارس , والمعاهد , والجامعات الإسلامية، بحجة أنها محاضن للإرهاب، وتفرخ الإرهابيين.

ولم يقتصر الأمر على القضاء على ما تبقى من تلك المدارس والمعاهد في المملكة العربية السعودية وباكستان، بل تعدى ذلك إلى التدخل السافر في تعديل المناهج والمقررات، حتى في المدارس والجامعات العلمانية التي أنشئت على غرار ما عند الكفار، وحذف كل الآيات، والأحاديث، والآثار، والمراجع، والمصادر، التي تتكلم عن كفر اليهود والنصارى، وعن عقيدة الولاء والبراء، وعن الجهاد، هذا ما علم وما خفي أعظم.

هذا بجانب وسائل الإفساد وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والتشكيك في الثوابت والمسلمات، والتعتيم، والتضليل، والتدليس الذي تقوم به وسائل الإعلام العالمية والمحلية، التي أضحت بوقاً للوسائل العالمية المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة المرئية، والفضائيات، والشبكات العنكبوتية.

لقد عمل كل ذلك وغيره كثير عمله في إفساد العقائد وتدمير الأخلاق، وتسييب الشباب.

لا خروج من هذا النفق المظلم، والفتن المحيطة، والمستقبل القاتم إلا بالرجوع إلى شرعنا المصفى، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

أولى تلك الوسائل وأهم هذه الأسباب العلم الشرعي، إذ مشكلة الإسلام الحقيقية تكمن في جهل أبنائه وكيد أعدائه.

ومعلوم أن المؤسسات التعليمية القائمة جلها مؤسسات علمانية، فهي معاول هدم ومسخ، ومنها كليات وجامعات إسلامية تستوعب أعداداً قليلة بجانب التزامها بنظم وقواعد ومتطلبات قد تعوق قيامها بالدور المناط بها. هذا بجانب الضغوط والمضايقات التي تواجهها.

من المعلوم ضرورة كذلك أن العلم بالتعلم، وأن العلم الشرعي ومفاتحه لا ينالان إلا بمجالسة العلماء ومزاحمة الحكماء منهم بالركب، والقرب من أنفاسهم، والحرص على الاستفادة منهمº لأن العلم يحتاج إلى الأدب, والسلوك, والهدي الصالح، والسمت الصالح.

التعامل مع الكتب من غير شيخ، وقبل الحصول على مفاتح العلم له أضرار بليغة ومخاطر كثيرة، ورحم الله أبا حيان الأندلسي حين قال مبيناً مضار ذلك ومحذراً منه:

يظن الغمرُ أن الكتب تهدي   ***  أخا جهل لإدراك العلــوم

وما علم الجهولُ بأن فيهــا  *** مدارك قد تدقٌّ عن الفهيـم

ومن أخذ العلوم  بغير شيـخ  ***  يضل عن الصراط المستقيم

وكم من عائبٍ, قولاً  صحيحاً  ***  وآفته من الفهم السقيـــم

من العسير جداً في زماننا هذا التفرغ لطلب العلم، أعني بذلك تفرغ العالم والمتعلم، حيث لم يبق إلا الانتساب إلى الجامعات الشرعية المفتوحة المتيسرة، وفي بعض الأحيان ولبعض الطلاب والشباب تكون في متناول اليد. أعني بذلك الدروس المنتظمة في المساجد، فهي لا تحتاج إلى رسوم، ولا تسجيل، ولا تفرغ، ولا ترحيل، وغاية ما تحتاجه:

1.  رغبة صادقة في طلب العلم الشرعي.

2.   وعزيمة ماضية.

3.   وقلب حاضر.

4.   وتفرغ جزئي لمدة ساعة أوساعتين بما في ذلك المراجعة.

5.   الكتاب الذي يدرس ودفتر وقلم.

6.   وإن كان هناك جهاز تسجيل فزيادة خير.

العلـم صيـد  ***  و الكتــابة قيـده

قيـد  صيـودك  *** بالحبـال الواثقـة

وأوقات هذه الدروس لا تتعارض مع طالب، ولا عامل، ولا موظف، فهي من بعد صلاة الصبح إلى الشروق، ومن بعد صلاة المغرب إلى العشاء، في أيام معدودة، وساعات محدودة، وأوقات مباركة مشهودة.

وهي مفتوحة للصغير، والكبير، والشاب، والشيخ، والقارئ، والأمي، والمنتظم، وغير المنتظم، للعالم، والمتعلم، والمستعلم، والمحب، في العقيدة، والفقه، والحديث، والسيرة، والسياسة الشرعية، والتفسير، والأدب، والسلوك.

من أمثلة ذلك ما هو قائم في مسجد علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بالمعمورة، حيث تقام فيه بفضل الله- عز وجل- ثلاثة دروس بعد الفجر، ودرسان بين المغرب والعشاء، على النحو التالي:

1.   شرح موطأ الإمام مالك بعد فجر الإثنين من كل أسبوع.

2.   شرح التجريد الصريح لصحيح البخاري بعد فجر الأربعاء من كل أسبوع.

3.   شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد بعد فجر الثلاثاء من كل أسبوع.

4.   شرح زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم بين المغرب والعشاء يوم الثلاثاء من كل أسبوع.

5.   شرح القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية, والحنفية, والحنبلية لابن جُزَي المالكي.

وسيُنقل درس صحيح الترمذي للألباني من مسجد جامعة إفريقيا إلى مسجد المعمورة قريباً بإذن الله.

هذا بجانب العديد من الدروس والدورات القصيرة المدى التي يقيمها السادة العلماء والضيوف الفضلاء من خارج البلد وداخله، التي عمر وأنار الله بها المساجد في معظم مساجد ولاية الخرطوم وغيرها.

والمطلوب من السادة المشايخ الإكثار من هذه الدروس والمداومة عليها، فأحب العمل إلى الله أدومه، والتحضير لها وتنويعها حتى تلبي جميع الرغبات وتحقق كل الطلبات.

وينبغي للشباب خاصة الاستفادة من هذه الدورس والحرص عليها، وتشجيع غيرهم وحضهم، فالدال على الخير كفاعله، ورب مبلغ أوعى من سامع، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.

وينبغي للجان المساجد والمسئولين عنها أن يسعوا لإقامة هذه الدروس، وأن يهيئوا لها الجو المناسب، وأن لا تضيق صدورهم بها، فعمارة المساجد بعد إقامة الصلوات المكتوبة والاعتكاف يكون بإقامة الدروس، والندوات، والدورات العلمية النافعة.

لا تحرم أخي المسلم، طالباً كنت، أم عاملاً، أم موظفاً، أم تاجراً نفسك من ذلك، واحذر التعليلات الفارغة، والأماني الكاذبة، فما أنت فيه مهما كان ليس بأوجب عليك ولا أحب إلى الله مما ندعوك إليه.

كان الشافعي - رحمه الله - ينشد:

إذا رأيتَ شباب الحي قد  نشأوا  ***  لا يحملون قِلال  الحبر والورقـا

ولا تراهم لدى الأشياخ في حِلقٍ,  *** يعون من صالح الأخبار ما اتسقا

فعد عنهم ودعهم، إنهم همــج ***  قد بدَّلوا بعلـو الهمـة الحُمقــا

قال ابن عقيل-رحمه الله-: (وبعض الناس يحتج لتركه – العلم – بكبر السن، أو عدم الذكاء، أو القلة والفقر، أو غير ذلك، وذلك من وسواس الشياطين يثبطون بها، ومن نظر في حال السلف وجماعة من علماء الخلف وجدهم لا يلتفتون إلى هذه الأعذار، ولا يعرجون عليها، وقد قيل:

ومن يجتهد في نيل أمر ويصطبر *** يَنَلـهُ، و إلا بعضَه إن تعســرا

فما دمتَ حياً فاطلب العلم  والعُلا  *** ولا تألُ جهداً أن تموت فتعـذرا

ولكن ينبغي اغتنام أوقات الفراغ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود).

هل تعلم أخي الكريم أن رياض الجنة هي حلق الذكر، التي يدرس فيها الحلال والحرام، ويتعلم منها السنة من البدعة، وأنها الجامعات المفتوحة.

صحَّ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - يرفعه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - : (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)، قالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: (حلق الذكر، فإن لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ).

قال عطاء بن أبي رباح: \"مجالس الذكر مجالس الحلال والحرام، كيف يشتري ويبيع، ويصوم ويصلي، ويتصدق، وينكح، ويطلق، ويحج\".

فهلم ارتع فيها واستأنس بها.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم وبارك على معلم البشرية الخير، وعلى آله والتابعين لهم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply