من فقه القنوت


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم)

 إذا تفكَّر المرء في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت عند النوازل، فإنه يجد فيها معاني عظيمة وفوائد عميمة, تكشف بعض بركات سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما أكثرها, وتُبرز بعض أسرارها وما أغزرها!

 

 فالقنوت فقهٌ عظيم يحمل معاني جليلة من إخبات العبد إلى ربّه الذي (يجيب المضطر إذا دعاه), فيطلب العون من مولاه الذي خلقه فسوّاه. فهو - سبحانه - الذي يغيث من دعاه:

 

الله يغضب إن تركتَ سؤاله          وبُنَيٌّ آدم حين يُسأل يغضبُ!

 

فهو – جلّ جلاله - الغني والناس فقراء, والقوي والناس ضعفاء. وقد جاءت الآيات صريحةً تخاطب الناس أنّهم في النوازل والنوائب لا يدعون أحداً إلاّ الله و(ضلّ من تدعون إلا إياه), (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون).

 

 والقنوت يتضمن دلالةً عظيمةً على التوحيد الخالصº إذ إنه لا يُقصَد في الحوائج إلا الله, ولا يَكشف السٌّوء سواه. وذلك من معاني (لا نعبد إلا إياه). والقنوت يحقّق استحضار العبد صفاتِ الله - تعالى - وزيادة الإيمان بها والشعور بعظمتها وجلالتها, فهو إقرار من المؤمن بأنّ القوة لله جميعاً وأنّ العزة لله جميعاً، وأنّ الله خالق كل شيء, ورازق كل دابّة (يعزّ من يشاء ويذلً من يشاء بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير) والإحساس بهذه المعاني هو الذي يقود المسلمين إلى امتثال أمر الله - تعالى -: (فلا تخشوهم واخشون) (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

 

 والقنوت تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء التي تحكم حياة المسلمين, وتنبني معالمها في الكتاب والسنة على أنّ أوثق عُرى الإيمان الحبٌّ في الله والبغض في الله, وهي التي يصدّقها تمايز الأفكار والمناهج والمعتقدات في الحال والمقال، ثم تمايز  الصفوف والنّصرة عند القتال.

 

 والقنوت إذكاءٌ لروح اليقين في حياة المسلمين, ليعلموا أنّ الأمر كله لله (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) فتمتلئ قلوبهم بمعية الله, فلا يشكّون في نصره ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده (وإنّ جندنا لهم الغالبون), (إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم), (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزِهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويذهب غيظ قلوبهم).

 

فلا شكّ أنّ رباط الدعاء والقنوت الذي يصل العبد بمولاهº استنصاراً به واستظهاراً على أعداء الله هو السِّر في الثبات واليقين كما قال رب العالمين: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) وأثنى عليهم ربهم - سبحانه - بقوله: (الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).

 

 والقنوت اشتمل على معاني التوكّل والاعتصام بالله وحدهº لأنّ المعين إنما يُفتقَد عند الشدائد فلا ناصر حينئذٍ, إلا ربّ العالمين (وإذا مسّ الإنسانَ ضرُّ دعا ربه منيباً إليه) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ, شديد) ولا يخفى ارتباط الذكر بالإيمان والتوكّل في كتاب الله (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكّلون).

 

 والقنوت شهادةٌ صادقةٌ من العبد بأنّ الناصر هو الله والقاهر هو الله, والضار النافع هو الله, والآمر الناهي هو الله, والظاهر الباطن هو الله, فشعار أولياء الله الصالحين (وأفوّض أمري إلى الله), (لا قوة إلا بالله), (والله المستعان على ما تصفون).

 

 والقنوت علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين (إنما المؤمنون إخوة) و (لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبٌّ لنفسه). وما أقربَ فقهَ القنوت في النوازل من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم, مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى), و(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلِمه) وقد جاء في الصحيحين قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل نجاة المستضعفين من المؤمنين وتشديد الوطأة على المشركين.

 

 والقنوت ربطٌ لحياة المسلمين كلها بمعاني العبادة: فصلاة العبد موصولة بواقع المسلمين (قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). فكما أنّ الصلاة عبادة فكذلك (الدعاء هو العبادة) كما في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخندق (ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس).

 

 والقنوت إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفسº إذ إنّ (من لم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية) فلا بدّ من تهيئة الفؤاد لأحوال القتال وساعات النزال واستحضار المعركة المتواصلة بين الحق والباطل (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا). فالقنوت يربّي قوة العزيمة وشدة البأس في نفس المسلم ليكون مستعدّاً لدكّ حصون الباطل. ويبعث فيه الإرادة الجازمة على محاربة كيد الكافرين الذين يبتغون العزة عند الشياطين (إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً) (ذلكم وأنّ الله مُوهنُ كيدِ الكافرين).

 

 ولو لم يكن للقنوت من ثمرة إلا أنّه بشرى للمؤمنين ببلوغهم ما يريدون وحصولهم على ما يأملون: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم), وأنه يقينٌ بقدرة الله فلا يبتغون العزة مِن سواه ولا يرجون إلا إياه لكفى، و(كم من فئة قليلةٍ, غلبت فئة كثيرةً بإذن الله).

 

 فهذا حال المؤمنين كلما نزلت بهم نازلة هرعوا إلى ربهم يستغيثون بهº فيجيبهم وينصرهم. ولا يَهِنون ولا يحزنون, ولا يفشلون, ولا يعينون الكفرة على إخوانهم (يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة), بل شعارهم (قل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً), (ومكر أولئك هو يبور) فوالله ما يكون قنوتٌ وإخباتٌ وجهادٌ للطغيان إلا جاء نصر الله كما كان (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان), فقد خرج القوم (من ديارهم بَطَراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط). يريدون أن يشربوا الخمر وتعزف عليهم القيان وتتحدث العرب عن مكانتهم فيها فناحت عليهم النّوائح وافتضح أمرهم وخاب فألهم وبلغت هزيمتهم آفاق الدنيا ورحم الله الإمام الطبري حيث قال: (فسُقُوا مكان الخمر كؤوس المنايا). 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply