بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني وأخواتي طلاب العلم :
أحييكم جميعا بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إن الله حفظ الدين، وحفظ الدين يكون بحفظ القرآن وحفظ السنة إذ هما المستمسك من الضلال، والتركة النبوية لأمته، و حفظهما يكون بحفظ العلماء الذين يبينون للناس، والمجاهدين الذين يحمون أحكامه، فالجهل والكفار هما عدوا هذا الدين، من هنا جعل الله - سبحانه وتعالى- النفرة نفرتين: نفرة لطلب العلم، ونفرة للجهاد في سبيل الله، قال الله - سبحانه وتعالى-: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) فالأولى إزالة الجهل، والثانية لطلب العدو، وقد وردت الأدلة الكثيرة التي ترفع طالب العلم فتجعله في مصاف المجاهدين في سبيل الله.
والعلم الشرعي يحتاج إلى عقليات فذة، تعي ما تعلم فلا يتفلت منها، وتؤديه كما علمته دون زيادة أو نقص، وهذا أعلى مقامات التبليغ عن الله، وقد جاء في الحديث: \" نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع \".
وهنا ينبغي أن نعلم أنه لا بد من أوعية للعلم تحفظه ليحيا به الناس كما تحفظ الأودية الماء الذي به حياتهم الدنيوية.
عن أبي موسى - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:\" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به \".
وهذه الأوعية إن تفقهت فيما حفظت وملكت أدوات النظر فيه أمكنها ذلك من الاستنباط وتنزيل النصوص على الوقائع المستجدة، و إلا فإنها تظل أوعية للعلم تمد ذوي الاجتهاد ومن يقوى على الاستنباط بهذه المادة الصافية النقية التي لم يشبها تحريف ولا تغيير، ثم هي تظل ميزاناً ضابطاً ومصححاً حالة الاجتهاد مع نص غير ثابت، أو هو ثابت لكنه لم يتعامل مع العبارة الواردة إنما تعومل مع المعنى، فيفتح الحفاظ لها على الناظر فيها كما يفتح الحفاظ للكتاب على الأئمة حين السهو أو الخطأ.
لهذا فلا مكان للمثبطين الذين يشيعون في مريدي حفظ القرآن العظيم والسنة النبوية عبارة:
زيدت نسخة في البلدة
وأقول : لا سواء
فإن هذه المقولة المثبطة لم تصدر ممن فهم عن الله فهماً صحيحاً لعدة أمور:
أولها: ما أسلفته إن تدبر جيداً وأدرك المرام منه.
ثانيها: أن النصوص الشرعية جعلت للحفاظ للكتاب والسنة مزيد فضل على من دونهم بمجرد الحفظ، والأدلة شاهدة على ذلك قال ـ صلى الله عليه و سلم ـ :«بلغوا عني ولو آية» أخرجه البخاري (3461) وقال ما أوردته من حديث : \" نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغهº فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» أخرجه أبو داود(3660) الترمذي (2656) وابن ماجه (230)
وإذا كان للحفاظ العلماء المجتهدين فضل زائد، فإن هذا لا ينفي فضل الحافظ بخاصة أن الحفظ بداية طريق التفقه والتعلم والوصول إلى درجة عالية، وإذا كان طالب العلم غير حافظ ففيم يتفقه، فالناس درجات فمن أصاب الأمرين جميعاً فهو الغاية، ومن أصاب واحداً منهما فهو على طريق الفضل، والعلو ليس عليه بممتنع بل هو أيسر له من غيره.
وقد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم- حفاظ القرآن على غيرهم ممن هم في منزلتهم عدا هذه الخصيصة، فبعد غزوة أحد وهو يدفن الشهداء، والأمر بحاجة إلى إسراع، والعدو لا زال قريباً منهم، وهم جميعاً ممن نالوا الشهادة فهم على فضل عظيم وقد شهد لهم بذلك وقال: \" أنا شهيد على هؤلاء \" ومع ذلك كان يقدم في اللحد الأحفظ لكتاب الله كما جاء في حديث البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول : \" أيهما أكثر أخذاً للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد \".
وكذا في الإمارة في السفر وغيره، وفي إمامة الصلاة.
ثالثها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دعا لأبي هريرة بالحفظ وعدم تفلت المحفوظ منه، والرسول لا يدعو إلا بخير.
فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه قال: ابسط رداءك فبسطت فغرف بيده فيه ثم قال: ضمه فضممته فما نسيت حديثاً بعد.
وإذا كان قد دعا لابن عباس بالفقه في الدين، فإن هذا الدعاء يشمل الحفظ وزيادة كما أسلفت فلم يكن مجرداً عن الحفظ، ونحن نعلم منزلة ابن عباس حفظاً وفقهاً واجتهاداً.
رابعها: لا يستوي قلب حافظ واع، وأوراق على الأرفف سطر فيها.
وأدع الإمام الحافظ الفقيه ابن حزم يجيبك عن ذلك حيث أحرق له المعتضد بن عباد من الكتب فقال:
فـإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطـاس بل هـو فـي صـدري
يسـير معي حـيث اسـتقلت ركائبي ويــنزل إن أنــــــزل ويـدفن فـي قـبـري
دعـــــــــوني مـن إحـراق رق وكـاغد وقولـوا بعلم كي يرى الناس مـن يدري
وإلا فعـودوا فــي المكـــــــاتب بـدأة فكـم دون مـا تبغـون للـه مـــــن سـتر
كـذاك النصـارى يحــــرقون إذا علـت أكــفهم القــرآن فــي مـــــــدن الثغــر
وما قاله الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى-:
علمي معي أينما يممت أحمله
إن كنت في البيت كان العلــــــم فيه معي
قلبي وعاء له لا قلب صندوق
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
خامسها : وهي حكمة لا يدركها إلا أهل العلم وهي:
أن النصوص بينها وشائج صلة، فليس كل نص يعتبر وحدة مستقلة عن غيره من النصوص من حيث الدلالة وإنما يحتاج النصوص بعضها لبعض، ويفسر بعضها بعضا، فمن هنا فمجرد الإطلاع على النصوص من بطون الكتب دون حفظها واستظهارها، وإعمال الفكر فيها يحرم المطلع الذي هذا حاله من استحضارها كلها معا وإعمالها جميعاً، والاستعانة في فهمها ببعضها الآخر.
وتوجد طائفة كبيرة من النصوص لا تكاد تنحصر، من النوع الذي لا يستقل بالدلالة بالمعنى وحده، إنما يفهم المعنى بضميمة غيره إليه وهو ما يسميه الأصوليون بالدليل غير المستقل.
ثم إنه لا يمكن القول بأن الناظر في النصوص يطلع على النص، ثم بتقليب الأوراق يستطيع الوصول إلى مخصصه إن كان له مخصص، أو مقيده إن كان له مقيد، أو ناسخه إن كان له ناسخ، أو ما يخرجه من حيز الإشكال إلى حيز التجلي إن كان مجملا، أو القياس عليه عند نزول نازلة تقتضي ذلكº لأن هذا الضرب من الأدلة لا يكون متبادر المعنى من أول وهلة، والناس متفاوتون في لمح القرائن والمبينات من النصوص للنصوص وهم حفظة والأدلة حاضرة في الأذهان، فكيف بغير الحافظ.
ولا يتأتى القول هنا بأن السبيل هو ضم الأدلة مع مخصصاتها أو مبيناتها، أو نواسخها، لأنا نعلم يقيناً أن ثم تشابك كبير بين النصوص يعسر معه استيعاب ذلك في موضع واحد في الكتب، و إلا لتكررت الآية، أو الحديث عشرات المرات في مواضع مختلفة، والدليل قد يكون واضحا تمام الوضوح من وجه، لكنه من وجه آخر ولدلالته على معنى آخر يحتاج إلى البيان.
وجاء أنه عرضت جارية ولدت بعد الدخول بها لستة أشهر، واستفتي الصحابة في ذلك وهم البعض بالإفتاء بحدها حتى قال عثمان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ: لا حد عليها، لأن القرآن يثبت أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فقيل له: أين تجد ذلك في القرآن، فقال: يقول الله تعالى ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) وقال في موضع آخر ( وفصاله في عامين) وإذا كان مجموع الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، والرضاع وحده يكون في عامين، تكون أقل مدة الحمل الباقي من طرح أربع وعشرين ( مدة الفصال ) من ثلاثين ( مدة الحمل والفصال معاً ) فينتج أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر أو إذا كانت فلا يحكم على المرأة بالزنا، وهذه الدلالة عند الأصوليين تسمى دلالة الإشارة، وبعضها يكون أظهر من ذلك وبعضها يكون أخفى من ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وهذا وكثير كثير غيره يجعلني أقول بما قاله المشترطون للحفظ كتاباً وسنة كشرط لأهلية الاجتهاد، ولا يكفي إمكان الرجوع إلى الأدلة في مظانها، لأن هذا الاشتراط – وهو القدرة على الرجوع – لا يتحقق في عالم الواقع ونفس الأمر إلا بالحفظ.
وتجد من فتاوى أهل العلم ما يؤكد ما أقول، ثم إنك إذا اطلعت عليها تكون في غاية العجب من البراعة وقوة التمكن من النصوص وحفظها وضم بعضها إلى بعض مع إعمال القواعد وتقديم بعضها على بعض، وترتيب الأدلة، وذلك لاستخراج فتوى في واقعة من الوقائع.
والمقام الآن أضيق من عرض لبعضها ويكفيك لإدراك هذا المعنى أن تنظر في فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن طواف الحائض للإفاضة إن ضاق عليها الوقت وتعذر عليها المقام في مكة لانتظار الطهر، أو العودة مرة أخرى للطواف ما يقضي العجب، بغض النظر عن الموافقة والمخالفة للنتيجة التي انتهى إليها بحثه - عليه رحمة ربي- ، لكن المهم الإفادة من ضم النصوص والقواعد، وإعمال مقاصد الشريعة والتضلع بما عند الفقهاء من نظائر لهذه المسألة في قضية رفع الحرج.
وأخيرا أقول لإخواني طلبة العلم ما قاله من قبلي:
إذا كان يـؤذيك حــــر المصيف ويبـس الخـــريف وبـــــرد الشتا
ويلهيــك حسـن زمـان الربيـع فأخــذُك للعلم قــــل لي متـى؟
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى لاستكمال عرض شبهات في طريق حفظ الوحيين وردها، والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد