تعرض كثير من الشّعراء على مرّ العصور للسّجن والاعتقال، وسواء كانوا مذنبين يستحقون العقاب أم كانوا برآء، فإن ذلك ليس مجال بحثنا في هذه السطورº فلسنا في موقف تجريمهم أو الدفاع عنهم ولكننا هنا نتوقف عند وصفهم لمشاعرهم وأحاسيسهم التي عبّروا عنها وصاغوها في أبياتٍ, من الشعر سارت بها الرٌّكبانُ وردّدها الأنامُ عبر الأزمان.
ومن أمثال هؤلاء الشعراء: الحطيئة، وعلي بن الجهم، وأبو فراس الحمداني، والمعتمد بن عبّاد وغيرهم كثير، نذكر هنا بعض النماذج منهم على سبيل المثال لا الحصر، وأول من يصادفنا في تاريخ الأدب الإسلامي من الشعراء الذين تعرضوا للحبس هو الحُطَيئة.
الحطيئة:
هو أبو مُلَيكة جرول بن أوس بن مالك العبسي. شاعر مخضرم. أدرك الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر. ولد في بني عبس دعِيًّا لا يُعرفُ له نسب فشبّ محروما مظلوما، لا يجد مددا من أهله ولا سندا من قومه فاضطر إلى قرض الشعر يجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينقم به لنفسه من بيئةٍ, ظلمته، ولعل هذا هو السبب في أنه اشتد في هجاء الناس، ولم يكن يسلم أحد من لسانه فقد هجا أمّه وأباه حتى إنّه هجا نفسه.
وكان سبب حبسه أنه أكثر من هجاء الزبرقان بن بدر وهو سيد من سادات بني تميم فشكاه إلى عمر بن الخطاب وكان الحطيئة قد قال فيه:
دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعـد فإنّك أنـت الطاعمُ الكاسي
فعرض عمر شعره على حسان بن ثابت وسأله رأيه فيه فقال: لم يهجُه، ولكنه سَلَحَ عليه فحبسه عمر فاستعطفه الحطيئة بأبيات قال فيها:
ماذا تقول لأفراخٍ, بذي مرخٍ,
زغبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
غادرتَ كاسبَهم في قعر مُظلمةٍ,
فارحم هداك مليكُ الناس يا عمرُ
أنت الإمامُ الذي من بعد صاحبه
ألقى إليك مقاليدَ النٌّهى البشرُ
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الأثرُ
فامنن على صبيةٍ, بالرَّملِ مسكنُهم
بين الأباطح يغشاهم بها القدرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينَهُمُ
من عَرضِ واديةٍ, يعمى بها الخبرُ
فرق له عمر وأطلقه ونهاه عن هجاء الناس، فقال: إذن تموت عيالي جوعا، فاشترى منه الخليفة أعراض الناس بثلاثة آلاف درهم، فكفّ، حتى إذا مات عمر عاد إلى طبعه.
ضابىء بن الحارث البرجمي:
شاعر مخضرم، هجا قوماً من العرب فاستعدَوا عليه عثمان - رضي الله عنه -، فأمر بجزّ شعره وحبسه، و بقي في السجن حتى مات. أثاره في سجنه صوت الحمام، فتوحد فيه وفي غربته مع جمله(قيار).. ويأخذ نفسه بالصبر لينتهي إلى بعض الحكمة:
دعاك الهوى والشوقُ لما ترنّمـت
هتوفُ الضحى بين الغصونِ طروبُ
تُجاوِبُـها وُرقُ الحمـامِ لصوتهـا
فكـلُّ لكـلٍّ, مُسعِـدٌ ومُجيـبُ
ومن يكُ أمسى في المدينة رحلُـه
فإني و(قيار) بهـا لغريـبُ
وما عاجلاتُ الطيرِ تُدني من الفتى
نجاحـاً ولا عـن ريثِهـنّ يخيـبُ
ورُبَّ أمورٍ, لا تضيرُك ضيره
وللقلب مـن مخشاتهـنّ وَجِيـبُ
وفي الشك تفريطٌ وفي الحزم قوةٌ
ويخطي الفتى في حدسِهِ ويُصيبُ
ولستُ بمستبقٍ, صديقاً ولا أخاً
إذا لم تعدّ الشيءَ وهـو يُريـبُ
هدبة بن خشرم العذري:
هو هدبة بن خشرم العذري. جرت منافرة بينه وبين زيادة بن زيد الحارثي في طريقهما من الشام إلى الحجاز، حيث شبّب كلٌّ واحد منهما بأخت صاحبه على سبيل المزاح أو النّكاية. ثم استطال الشرٌّ فشجّ زيادة والد هدبة.
فلما كان الليل بيت هدبة زيادة فقتله. فرُفع أمره إلى معاوية، فضنّ بهدبة، وعرض على عبد الرحمن أخي زيادة الدّية فأبى إلا القَوَد. فسأل معاوية عن زيادة (المقتول) أله ولد؟ فقيل نعم. فقال أصغير أم كبير. قالوا صغير. فقال معاوية يحبس هدبة فحبس في سجن المدينة إلى أن يبلغ ولد زيادة. فحبس حتى بلغ الولد، ثم عرض عليه الدية فأبى إلا القَوَد.. وفي سجنه ذاك الذي طال سنوات كانت لهدبة قصائد تضجّ بالنوازع الإنسانية وهذه إحدى قصائده يخاطب بها ابن عم له، كان نزيلاً معه في السجن:
طربتَ وأنت أحيـاناً طروبُ
فكيف وقد تعَلَّاك المشيبُ
يجدّد النأيُ ذكـرَك في فؤادي
إذا ذَهِلَت عن النّأي القلوبُ
يُؤَرقُني اكتئابُ أبي نُمَيرٍ,
فقلبـي من كآبتِهِ كئيبُ
فقلتُ له: هداك اللهُ مهلاً
وخير القول ذو اللبّ المصيبُ
عسى الكربُ الذي أمسيتَ فيهِ
يكونُ وراءَه فرجٌ قريبُ
فيأمنَ خائفٌ ويُفكَّ عانٍ,
ويأتـي أهلَه النائي الغريبُ
ألا ليـت الرياحَ مُسخَّراتٍ,
بحاجتنا تُبـاكرُ أو تـؤوبُ
فتخبرَنا الشمالُ إذا أتتنا
وتخبرَ أهلَنا عنا الجنوبُ
فإنا قد حلَلنا دارَ بلوى
فتخطئُنا المنايـا أو تصيبُ
فإن يك صدرُ هذا اليـومِ ولّى
فإن غـداً لناظـرِهِ قريبُ
وقد علمت سُلَيمى أنّ عودي
على الحَدَثانِ ذو أيدٍ, صليبُ
وأن خليقتـي كرمٌ وأني
إذا أبدت نواجـذَها الحروبُ
أعينُ علـى مكارمها وأغشى
مكارهَـَها إذا كَسَعَ الهَيُوبُ
وقد أبقى الحوادثُ منك رُكنًا
صليباً مـا تؤيسه الخطوبُ
معـي أن المنيةَ قد توافي
لوقـت والنوائبُ قـد تنوبُ
العَرجي في سجن مكة:
هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، لقبه العرجي من شعراء قريش، لما ولِي محمد بن هشام مكة وحج بالناس هجاه العَرجي. فأخذه محمد بن هشام وقيده وضربه ضرباً مبرّحاً، ثم أقسم ألا يخرجه من السجن مادام له سلطان، فمكث العَرجي في سجنه نحواً من تسع سنين حتى مات فيه، وقد أيقظ هذا السجن في نفسه أعمق المشاعر والآلام، وقد قال العرجي قصائد كثيرة في حبسه منها قوله:
سـينصرني الخليفة بعد ربي
ويغضبُ حين يُخبَرُ عن مساقي
عـليَّ عـباءةٌ بـلقاءُ ليست
مع البلوَى تُغيِّبُ نصفَ ساقي
وتـغضب لـي بأجمعها قُصيُّ
قـطينُ الـبيتِ والدٌّمثِ الرقاقِ
وكذاك أبياته السائرة:
أضاعوني، وأيَّ فتـى أضاعوا
ليومِ كريهـةٍ, وسدادِ ثغـرِ
وخلَوني ومعتـركَ المنـايا
وقد شرعوا أسنَّتَـهُم لنحري
كأني لـم أكـن فيهم وسيطاً
ولم تك نسبتي في آلِ عمرو
أُجَرّرُ في الجوامع كلَّ يومٍ,
ألا للهِ مظلمتـي وهَصـرِي
عسى الملكُ المجيبُ لمن دعاه
سينجيني فيعلمَ كـيف شكري
فأجزي بالكرامـة أهـلَ ودي
وأجزي بالضغينة أهلَ ضري
علي بن الجهم:
علي بن الجهم بن بدر السامي: كان شاعرًا فاضلًا متدينًا، ذا شعر جيد مستحسن، وكان له اختصاص بالمتوكل إلا أنه كان يتكلم عند المتوكل على أصحابه، فحبسه المتوكل ثم نفاه إلى خراسان، فقال في حبسه أبياتا منها:
قالت: حُبِستَ. فقلتُ: ليس بضائري
حبسي، وأيٌّ مهنَّدٍ, لا يُغمـدُ
أوَمَا رأيتِ الليثَ يـألفُ غِيلَـه
كِبراً، وأوباشُ السّـِباعِ تـردّدُ
والشـمسُ لولا أنها محجوبـةٌ
عن ناظريكِ، لما أضاء الفّرقـدُ
غِيَـرُ الليالي بـادئـاتٌ عـوّدٌ
والمالُ عاريةٌ، يُفاد، ويـنفَـد
ولكل حالٍ, مُعـقـِبٌ، ولربّـما
أجلى لك المـكروهُ عمـّا يُحمَدُ
لا يؤيسنـّكَ من تفـرّج كربـةٍ,
خطبٌ رمـاكَ به الزمانُ الأنكدُ
واصبر فإنّ الصبرَ يُعقِبُ راحةً
في اليوم، تأتي، أو يجيءُ بها الغدُ
كم من عليلٍ, قد تخطـّاه الرَدى
فنجـا، ومات طبيبُه والعُـوَّدُ
والحبـسُ ما لم تَغشَـهُ لِدنِيَّـةٍ,
شنعاءَ، نِعـمَ المنزلُ المتورّدُ
بـيتٌ يُجـدِّد للكريمِ كـرامـة،
ويُزارُ فيه، ولا يَزورُ ويُحفَدُ
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد