بسم الله الرحمن الرحيم
حين نجتاز المرحلة الأولى وهي الاقتناع بأهمية التوجيه، وقيمة دوره، وضرورة المشاركة الفعالة فيه. فهل يعني هذا نهاية المطاف؟ أم أن هناك مراحل أخرى وخطوات للعمل؟
وبعبارة أخرى: هل يمكن أن نجعل الدور التربوي للأستاذ، والذي يشكل هذا القدر من الأهمية و الخطورة، أن نجعله مطلباً عائماً، وطريقاً مفتوحاً يسلكه الإنسان كيفما اتفق وحيثما تيسر له؟
وأحسب أن المرحلة الأولى قد اجتازها الكثير، وأنه أصبح يشعر بالمسؤولية بغض النظر عن مدى حرارة هذا الشعور ومستواه..
وخطورة الدور التربوي للأستاذ تفرض علينا مزيداً من العناية والدراسة لأساليب هذا الدور، وألا نتركه ضحية مواقف متبعثرة غير منضبطة.
والرأي الذي يطرح لا يعدو أن يكون محاولة متواضعة، تنتظر المزيد من الإثراء والتعديل والمناقشة لتستوي على سوقها، وتتأهل لتكون برنامج عمل ينتظر منه بإذن الله نتاجاً مثمراً.
ونستطيع أن نحدد أساليب التوجيه، ونظرات المعلمين تجاهه في الصور الآتية:
الرؤية الأولى:
تلك الرؤية التي ترى أن الحق واضحٌ أبلج، وأن معظم الناس يدركون ويعرفون الطريق جملة، وإن وجد بعض الغبش في بعض الجوانب، إلا أن العلة ومكمن الداء عند هؤلاء وأولئك هي تحويل الاقتناع إلى عمل واقعي والعمل بما يعلمون.
إن ما نراه من واقع كثير من الشباب والتلاميذ من المخالفات، والمظاهر الشاذة ليس بالضرورة نتيجة للجهل. ومن ثم فهؤلاء أحوج ما يكونون إلى الموعظة والحث والترغيب والترهيب، وهي قضية واضحة محددة لا لبس فيها، وليست بحاجة لمزيد فلسفة وتنظير.
وبناءً عليه، فالتوجيه الذي يراد يمكن أن يتحقق عفوياً من خلال كلمة عارضة، أو موعظة طارئة، فهي تحقق ما يحققه غيرها.
أو تجعل في التوجيه والموعظة قضية موسمية يمكن أن تتم في حصة انتظار، أو في استقبال شهر رمضان أو عشر ذي الحجة، أو من حدث معين ككسوف، ومصيبة عامة للمسلمين، أو وفاة أحد الطلابº حيث تسهم هذه المواقف وتلك في خلق استعداد نفسي لدى الطالب يمكن استثماره وتوظيفه لتحقيق أهداف تربوية معينة.
أو ربما ينطلق التوجيه من خلال خطأ أو تجاوز أو مخالفة، فيتحدث عنها الأستاذ محذراً ومنبهاً.
الرؤية الثانية:
وهي تلك الرؤية التي ترى أن مجرد التوجيه والحديث العام قد لا يكفي، فلا بد من الانطلاق إلى مرحلة أكثر تحديداً، وتتجه الرؤية إلى محاولة استصلاح أكبر عدد ممكن ممن أصابه من غبار الضلالة ما أصابه، وتلبس بشيء من المخالفات السلوكية؟
وينطلق أصحاب هذه الرؤية من خلال ما يرونه في الواقع من أن التوجيه العام والموعظة المطلقة سرعان ما يذوب أثرها وتمحى نتائجها. وما يرونه في المقابل من نتائج مثمرة ومواقف سارة تتمثل في ذاك التحول من طريق الغواية إلى الهداية الذي نراه كل حين للعديد من الطلاب.
وبدلاً من أن تكون هذه الصور المشرقة السارة نتاج مواقف طارئة غير مقصودة فلنسهم نحن في دفع عجلتها.
الرؤية الثالثة:
وهي تلك الرؤية المتشائمة التي ترى أنه لا مجال ولا مناص من هذا الواقع الذي يعيشه الطلاب، أو أن التغيير ليس بيد المعلم، بل هو بيد من يملك دفة الأمور في المجتمع، فيصلح الإعلام، ويصلح الشارع، ويصلح رفقة التلميذ. وهي مطالب في قائمة المستحيل، ومن ثم فالأمر خارج عن الطوق ليس في مقدور فلان أو ذاك، فما علينا سوى التشكي والدعاء لهم بالهداية، والأمور بيد الله - سبحانه وتعالى-.
وهي رؤية مع إغراقها في التواني والسلبية واحتقار الذات إلا أنها وللأسف تملأ مساحة واسعة ممن يتصدر للتربية والتوجيه في بلاد المسلمين، وهي قد تكون إفرازاً للهزيمة النفسية التي تعيشها الأمة أجمع، أو نتاج تجارب خاطئة، أو رغبة في التنصل من الأمانة والمسؤولية، وأيًّا كانت الدوافع فهي تحت هذه المظلة، وداخل هذا الإطار.
إننا ومع رفضنا لهذه النظرة، أو تلك النظرات المتشائمة، نتفق أن بقية تلك الرؤى تملك قدراً من المصداقية، وتملك رصيداً من الاعتبار، والنتائج المتحققة منها تزيد من اقتناع أصحابها بها.
ولاشك أن الكلمة الصادقة التي يرسلها صاحبها دون إعداد مسبق، أو يدفعها له موقف لم يحسب له حساباً لاشك أنها تترك أثرها بإذن الله.
ولا ريب أن استصلاح عدد من وقع في الفساد والرذيلة جهد لا يجادل فيه إلا مكابر.
إذاً فهي أدوار مطلوبة، ورؤى تملك قدراً من الصحةº لكن أليس الأمر يستحق منا نظرة أعمق وأشمل؟
فهذه مقترحات أضعها بين يدي إخوتي المعلمين أرى أنها تسهم في الارتقاء بالتوجيه ليؤدي الدور المنتظر منه بإذن الله:
أولاً: تحديد الأهداف:
فرق ظاهر بين أولئك الذين يرسمون لأعمالهم أهدافاً واضحة ومحددة، وأولئك الذين يسيرون في أعمالهم ارتجالاً دون أن ينظروا إلا إلى ما تحت أقدامهم.
إن صاحب أي مشروع تجاري أو عمل دنيوي لابد له من أهداف واضحة محددة، يستطيع من خلالها أن يخطط لعمله تخطيطاً سليماً، وتكون هذه الأهداف معياراً للتقويم وحساب الأرباح والخسائر، والفكر والعلم شأنه أعلى وأتم، فهو أولى أن يسير على خطى ثابتة، وأن يرسم أهدافاً واضحة محددة.
كثيرٌ هم الأساتذة الذين يبذلون جهوداً خيرة مشكورة، لكنها تسير ارتجالاً دون تخطيط. وربما كان هذا خيراً بحد ذاته، لكن خير منه أن يكون للمدرس هدف واضح يسعى إليه، ومنهج وخطط توصله لتحقيق هذا الهدف، مع إتقان عمله والسعي نحو الأفضل والأكمل.
وحين يعتني المعلم بعملية التوجيه، لتصبح عملية مخططة مقصودة، ويرسم لنفسه أهدافاً محددة فهذا يعني:
أولاً: أن جهده أنضج ثمرة، فثمرات عمله مقصودة مرادة، في حين تكون ثمرات النموذج الأول اتفاقاً.
ثانياً: أن هذا يتطلب منه تفكيراً هادئاً يسبق عملية التوجيه والتدريس، ويتولد من هذا التفكير نضج أكثر للمضمون والأسلوب، بخلاف التوجيه المرتجلº إذ لا يعدو غالباً أن يكون ردة فعل لموقف يطرأ في الفصل أو يمر بالأستاذ، أو ربما كان مصدره خاطر يمر في خياله وهو يتحدث.
ثالثاً: أن مثل هذا التوجيه ينطلق من اعتبار ومراعاة أكثر لعوامل عدة لها دور مهم في تحديد أسلوب ومضمون ما يطرح، ومن هذه العوامل:
أ - المرحلة الدراسية والعمرية للطلاب، فما يستهدف المعلم تحقيقه لدى طلاب المرحلة المتوسطة يختلف عما يستهدف تحقيقه لدى طلاب المرحلة الثانوية.
ب - التركيبة الاجتماعية للطلاب، ففرق بين قرية صغيرة نائية وبادية، وبين مدينة تعيش الضجيج والصخب والمؤثراتº فرق بين تفكير هذا الطالب وذاك، بين إدراك ابن القرية والبادية، وبين إدراك ابن المدينة.
وقد تكون الشريحة العامة في المعلمة من طبقة فقيرة، وقد تكون من طبقة ثرية، وهي أمور لها تأثيرها الكبير على نمط التفكير والسلوك، وعلى طبيعة الخطاب الذي ينبغي أن يوجه لهؤلاء وأولئك.
ج - طبيعة المادة التي يدرسها المعلم فقد يكون ضمن أهداف مدرس مادة الحاسب مثلاً أن يؤصل لدى تلامذته الشعور بما تعانيه الأمة من تخلف مادي، وتقدم أعدائها عليها، وأن الأمة تحتاج لأن يعنى أبناؤها بهذه الجوانب المادية ليساهموا في تحقيق نهضة الأمة، وقل مثل ذلك في سائر المواد التطبيقية والتي تسمى علمية(هناك اصطلاح شائع وهو تسمية هذه المواد كالعلوم والرياضيات ونحوها المواد العلمية، وسواها المواد الأدبية.).
وقد يكون ضمن أهداف مدرس التربية الرياضية معالجة المظاهر السلبية والسلوكيات الشاذة المتعلقة بممارسة الرياضة، وتأصيل المفهوم الصحيح للرياضة وكونها وسيلة لا غاية.
وقل مثل ذلك في سائر المواد والتخصصات.
رابعاً: حين يسلك المعلم هذا المسلك في التوجيه فإنه يستطيع أن يقوِّمَ جهده ويقيس عمله، فيدرك ما حققه من نتائج، ويتعرف على أسباب النجاح والفشل، أما حين يكون عمله مرتجلاً فماذا يقيس؟ وأي عوامل للنجاح والفشل يستطيع إدراكها وهو لم يضع شيئاً في حسبانه؟
خامساً: وحين يسلك هذا المنهج فإنه سيسعى للوصول إلى هدفه من طرق عدة وأبواب شتىº فتتضافر على مسمع الطالب المؤثرات المتنوعة، لتؤدي في النهاية لنتيجة واحدة، بخلاف ما لو كان الهدف والوسيلة هو ما يخطر في ذهنهº فستكون المواقف مبتورة.
وبعد هذا كله يتضح لنا أن المعلم حين يحدد لنفسه أهدافاً واضحة فإنه يستطيع أن يحقق نجاحاً أكبر، ويترك أثراً أعظم.
ومع دعوتنا للمدرس أن يسلك هذا المنهج والمسلك فهذا لا يعني تحول الوسيلة إلى غاية، والإغراق في هذا الأمر وترك التجاوب مع الخواطر الواردة، والأحوال الطارئة.
ثانياً: العناية ببناء المفاهيم والتصورات:
وتبدو العناية بهذا الجانب ملحة ومهمة لما يلي:
1 - أن الغزو المكثف الذي واجهته الأمة ولَّد نتاجاً هائلاً من المفاهيم والتصورات الشاذة البعيدة عن المفاهيم الشرعية، إضافة إلى النتاج المتراكم للأعراف والتقاليد الخاطئة التي سادت في مجتمعات المسلمين فولدت العديد من المفاهيم الشاذة التي أصبحت جزءاً من تفكير الناس يصعب إزالتها واقتلاعها.
ذلك كله ولَّد حاجة ملحة لمواجهة هذا الانحراف والسعي في تصحيحه، وأضاف ضمن أهداف الصحوة والعمل الإسلامي العناية بإعادة بناء المفاهيم والتصورات الشرعية لدى الناس.
2 - أن المفاهيم والتصورات ليست نبتة مجتثة في العراء كالخطأ والسلوك المجرد، بل هي نواة ونبتة تنمو وتورق ما يليق بها.
لذا فالمفاهيم والتصورات الخاطئة ستولد وتنتج ألواناً من المواقف والسلوكيات الشاذة والتي ليست إلا ثمرة لتلك المفاهيم.
وفي المقابل فالمفاهيم والتصورات الشرعية هي الأخرى ستولد ألواناً من المواقف والسلوكيات الشرعية.
فالدعوة للتصحيح إذاً ستزيل ألواناً من الأخطاء المتراكمة، وتولد ألواناً من المواقف الإيجابية.
3 - قد تكون الدعوة للسلوكيات المحددة فعلاً وتركاً صعبة النتاج، بطيئة الأثر، ويشعر المعلم وهو يسعى لذلك أن هناك أفواجاً من الطلاب- بل ربما كانوا الأغلب - يمرون عليه دون أن ينجح في تصحيح ما لديهم من مخالفاتº ذلك أن قضية السلوك المحدد تتأثر بالشهوات والأهواء، وقد تثقل على صاحبها، بخلاف المفاهيم والتصورات التي لا تصطدم بشيء من ذلك، ومن ثَمَّ فسيتجاوب مع ذلك الغالب الأعم، ويستطيع المعلم أن يترك أثره على معظم طلابه ظاهراً واضحاً.
4 - أن المفاهيم الصائبة حين تغرس باقتناع لدى الناشئة يصعب اقتلاعها بإذن الله، بل هي ربما تتضمن أداة للحكم على ما يسمعونه من غيرهم.
وهي ليست دعوة لترك الجانب الآخر، ولا للتهوين مما يقوم به إخواننا من النصح والبيان والتوجيه، لكنه حين يكون وحده كذلك فسوف يعزل أثر المعلم في إطار محدد.
إن الأمة تواجه اليوم تياراً جارفاً، وغزواً مكثفاً يستهدف اقتلاع كل ما من شأنه ربط الناس بالإسلام، وما يمت للدين بصلة من قريب أو بعيد في وقت تواجه المنابر الإسلامية جفافاً ومحاصرة هي الأخرى، فتبقى هذه المنابر وهذه القنوات أداة مهمة للمصلحين للتصحيح، وبناءِ الجيل البناءَ الشرعي.
ويمكن أن نطرح أمثلة عاجلة على بعض المفاهيم والتصورات والتي نرى أن يعنى المعلم ببنائها البناء الشرعي، وتصحيحها لدى تلامذته.
أ - شمولية الشريعة الإسلامية وأنها جاءت لتحكم سائر حياة الناس، وليست قاصرة على جانب واحد من الجوانب.
ويمكن أن يتم ذلك من خلال بيان كثير من المواقف المخالفة لما هو مستقر لدى الناس من أسس الشريعة في جوانب مختلفة من الحياة (الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية...)، ومن خلال بيان الموقف الشرعي في كثير من هذه المواقف، ومن خلال الحديث عن سعي العلمانيين المكثف إلى حصر الإسلام في زوايا ضيقة.
ب - التثبت والتبين في الأخبار والشائعات إذ هي تؤثر كثيراً في حياة المسلمين، فيحكمون على الناس والمؤسسات من خلال ما يسمعونه من إشاعات ربما كان وراءها أعداؤهم، وكثيراً ما يستغل ذلك الأعداء في تشويه صورة رجال الصحوة ومؤسساتها.
ويستطيع المعلم تأصيل هذا المفهوم من خلال الحديث عن أهمية التثبت في الأخبار، ومن خلال عرض نماذج من الشائعات الباطلة التي تروج عند الناس فيقبلونها، ومن خلال الحديث عن ضوابط من تقبل روايته وخبره...
ج - الولاء للإسلام وقضيته مهما كان تدين المرءº إذ ساد مفهوم خاطئ عند الناس هذا العصر، وهو أن المرء حين يكون مقصراً أو مذنباً فذلك يعني أن يعفى من المسؤولية في التفاعل مع القضايا الإسلامية.
ويمكن تأصيل هذا المفهوم بأن يبيِّن المعلم لتلامذته أن الأصل في المرء أنه مسلم مهما كان مقصراً، وأن تقصيره وإن أنزل رتبته إلا أنه لا يمكن أن يعفيه عن شيء من الواجبات الشرعية كهذا الواجب، ومن خلال عرض نماذج من التاريخ الإسلامي ساهم فيها أمثال هؤلاء في نصرة قضية الدين، ومن خلال عرض نماذج من التآمر على المسلمين مما يثير العاطفة تجاه قضيتهم ونصرتهم، وبيان تآمر الأعداء واشتراكهم في ذلك وإن لم يكونوا متدينين أو ملتزمين بمذاهبهم، ومن خلال اقتراح برامج ووسائل محددة يمكن أن يشارك فيها هؤلاء...
أحدهم وهو شاب غير متدين كان في مجلس قال فيه أحد الحاضرين كلمة فيها سخرية بالدين فانتهره وأنكر عليه، وبعد افتراق مجلسهم سأله أحد الحاضرين عن سر هذا الشعور مع ما هو عليه، فأعاد ذلك إلى كلمة سمعها من أحد مدرسيه يتحدث فيها عن الدفاع عن الدين ولو كان المرء فاسقاً.
هذه نماذج ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر عل بها يتضح المقصود مما أردناه من ضرورة التركيز على بناء المفاهيم والتصورات الشرعية.
ومما ينبغي أن يعلم هنا أن بناء المفاهيم يحتاج لوقت وطول نفس، وتنويع في الأساليب والوسائل، وأنه لا يمكن أن يتم من خلال الأوامر التي توجه مباشرة.
ومع ذلك كله يبقى اعتراضنا على النماذج والرؤى السابقة منحصراً على مجرد اعتبارها وحدها منطلقاً للتوجيه، وتبقى سائر الأساليب مطلوبة ينبغي أن يسعى إليها جميعاً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد