بسم الله الرحمن الرحيم
تطل علينا ذكرى الهجرة مع بداية العام الهجري الجديد فتغمرنا بعبق التضحيات وتجسم لنا أعظم صور الجود بالنفس والمال على مر التاريخ..
كان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة وكان التوجيه إلى المدينة من الله - تعالى - وروى البخاري في حديث طويل وفيه (... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء في هذه الساعة إلا لأمر، قالت: فقال رسول الله لأبي بكر: \"أخرج من عندك \" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، فقال \"فإني قد ُُُأذن لي في الخروج\" فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \"نعم\"، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله: \"بثمنها\"...... ).
ولقد سبق حادث الهجرة هذا هجرة بعض الصحابة وزوجاتهم وكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد الذي أخذ أصهاره منه زوجته عنوة ومنعوها من الهجرة معه فلم يجلس في مكة وينتظر موافقتهم على اصطحابها ولكنه استدار واتجه إلى الله.. وهي بدورها - رضي الله عنها - لم تتهمه بالتفريط في حقها ولم تطلب منه الطلاق لأنه تركها في رمضاء نفسية وحسية بين ظهراني المشركين في مكة، لقد تعالت على ذلك - رضي الله عنها - رغم الويلات التي عانتها بسبب حرمانها من وليدها الذي أخذه أهل زوجها بعد أن خلعوا كتفه.. وهكذا لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة ترفيهية ولكنها مغادرة الأرض والأهل ووشائج القربى وعلاقات الصداقة والمودة وترك الأموال والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة..
وما أحوجنا اليوم في مطلع عام جديد إلى إحياء ذكرى هذه النماذج الفذة علنا نفيق ونستفيق من غفلتنا التي طالت وطالت معها رقدة إيثار السلامة بداخلنا.. وغدونا نشدو ليل نهار \"ماذا نفعل؟! \".. لنبرر لأنفسنا تقاعسنا وجبننا وركون أجسادنا إلى الأرض [أرضنا المسلوبة بمختلف أنواع السلب].. أجسادنا التي تخشى مفارقة الطعام اللذيذ والفراش الوثير.. كما أنها تخشى غضبة الذئاب!!..
نحن بحاجة إلى إحياء تضحية أسماء بنت أبي بكر.. الأنثى الحامل في شهرها الأخير.. لم تتعلل أسماء بظروفها الصحية وتعتذر عن هذه المهمة الشاقة!! لقد كانت جزءاً من عملية الهجرة، كان عليها أن تقطع شوارع مكة بين العيون الحاقدة والأنفس التي تتلمظ للثأر.. وتمضي أسماء بعيداً بعيداً جنوبي مكة في أعلى الجبل تنقل الزاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -..
ما أعظم جهادك يا ابنة خليفة رسول الله وأنت حامل في شهرك الأخير وتصعدين جبلا يعجز الرجل العادي عن صعوده.. أتُراك أقوى بنية من غالبية رجال غثاء السيل؟!! أم أنك تحملين بين جنبيك نفساً عظيمة حملتها على كفك في سبيل الله وهي التي جعلتك تتعالين على الآلام والصعاب!!
ولكن هكذا أصحاب الدعوات في كل زمانº عندما يمتزج حب الدعوة بدماء قلوبهم يصبحون جنداً وخدماً لها فيفلحون.. و يرزقون معية الله لهم.. فلقد تجسدت في حادث الهجرة عبقرية التخطيط البشري الذي وضعه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بتوفيق من ربه.. لقد اختير الأفراد المنوط بهم الأدوار بدقة وذكاء عجيب.. أفراد أهلٌ للمسؤولية.. ولم تكن المرأة المسلمة بمنأى عن هذه المسؤولية.. ومن الذي اختارها لتشارك في عملية الهجرة؟! إنه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا فخر يتلألأ به جبين المرأة المسلمة أبد الدهر، فهي لم تستبعد بدعوى أنها امرأة ضعيفة!! وهذا أحد أقوى الأدلة على نظرة الإسلام السامية للمرأة..
و كان تصرف أسماء في المواقف التي مرت بها في هذه الأثناء شاهدا على رجاحة عقلها وسرعة البديهة عندها وأنها بحق أهل لاختيار رسول الله لها.. فعندما لم تجد ما تجمع به زادها - على الفور - شقت نطاقها نصفين وربطت السفرة بأحدهما.. وغدا ذلك علماً لها أبد الدهر \"ذات النطاقين\".. !
الموقف الثاني والأكثر صعوبة يوم أن ُطرق عليها الباب بعنف وعندما فتحت وجدت أمامها أبا سفيان وفرعون الأمة أبا جهل يسأل عن أبيها.. متجهم الوجه يتطاير شرر الغضب من عينيه.. كان يمكن للرجال أن ينهاروا أمام هذا الموقف.. لكن أسماء لم تنهار وأجابت بثبات وصلابة: لا أدري.. وجمع عدو الله حقده وغيظه في صفعة لطم بها وجهها فأطارت قرطها من أذنها.. وبقيت في رزانة الجبال بينما مضى عدو الله يأكله الغيظ.. (الغريب هنا أن عدو الله أبا جهل بعد أن لطم أسماء قال لأبي سفيان: احفظها عني يا أبا سفيان حتى لا تقول العرب أني لطمت امرأة! هذا مَن وصفه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأنه فرعون الأمة.. ولكن يبدو أنه في عالمنا اليوم فرعون صغير جدا!).
الموقف الثالث من مواقف أسماء العظيمة في الهجرة يوم ثار جدها أبو قحافة على ابنه أبي بكر لأنه أخذ ماله كله، وفي ذكاء نادر جمعت كومة من الحصى وغطتها بثوب وقادت جدها الأعمى ليتحسس الحصى على أنه مال وجواهر فتهدأ ثائرته ويكف عن الكلام في خروج ابنه أبي بكر.. لقد نجحت في حفظها للسر حتى تموِّه على جدها الجواهر بالحصى.. ولم تكن شخصيتها بها من حب الاستطلاع (الذي كثيراً ما يكون في غير محله) ما يجعلها تسأل أباها، وهي تنقل لهما الزاد، إلى أين يتجها بعد الخروج من الغار.. كل ما كانت تعلمه من عملية الهجرة هي أنها مسؤولة عن نقل الزاد، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأباها قد غادرا الغار.. أما إلى أين؟ فلا تدري، وبعد أن أنهت مهمتها كانت جاهلة تماماً بالخطوات اللاحقة، وها هي تؤكد ذلك قائلة:
(فمضى ثلاث ليالٍ, ما ندري أين توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أتى رجل من أسفل مكة يغني بأبيات والناس يسمعونه ولا يرونه وهو ينشد هذه الأبيات... فلما سمعنا قوله عرفنا أين توجه رسول الله)..
هكذا أثبتت أسماء - رضي الله عنها - وسجل التاريخ.. أن المرأة كفء وأهل للمسؤولية والثقة.. !
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد