العيد... تصحيح مفاهيم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قد ثبت في الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: (قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فوجدهم يحتفلون بعيدين، فقال: كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكما الله بهما خيرا منهماº يوم الفطر و يوم الأضحى)

فالمسلمون ليس لهم إلا هذين العيدين.

و العيد في الإسلام يختلف عن كل الأعياد في سائر الأمم، يختلف في المصدر و المضمون و كذلك في المظهر.

فمصدر العيد عندنا نحن المسلمون هو الله (قد أبدلكما الله بهما عيدين)، بخلاف الأعياد في سائر الأمم حيث نجد أن العيد مصدره من عند رئيس أو حاكم، و ما كان من الله فقد حرف و بدل.

وشتان شتان بين العيد الذي مصدره ممن يعلم السر و أخفى و بين العيد الذي يكون مصدره من عند مخلوق ضعيف لا يستطيع أن يعلم ما ينفعه عوضا أن يعلم ما ينفع غيره.

أما من ناحية المضمونº فنجد أن كل أمة – من الأمم الغابرة أو الحاضرة – تجعل شيئا من أمجادها السابقة عيدا لها تتذكره في كل عام.

غير أن ما تتصوره هذه الأمم مجدا لها قد لا يكون كذلك، بل ربما يكون شيئا حقيرا تافه لا يستحق أن يذكر، فبعض الأمم تجعل من ذكرى انتصارها في معركة – و لو بالغدر و الخيانة – عيدا لها، وأخرى تجعل من ولادة ملك أو حاكم عيدا لها.

لكن في الإسلام نجد أن العيد – لأنه من عند الله – فمضمونه الشكر لله على كريم إنعامه، و وافر عطائه بالهداية إلى الإسلام يوم ضللت أمم من البشر {و لتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون}.

أن أعظم رجل في التاريخ، و أعظم رجل له سيرة عطرة، و أعظم قائدº هو محمد رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا لا نجد أن الله جعل شيئا مما يتعلق بحياته و سيرته – وكل سيرته أمجاد – عيدا نحتفل به في كل عام.

لان الغرض الأساس من العيد هو التعظيم، و لا يستحق التعظيم المطلق إلا الله، ولهذا شرع لنا أن نكبر و نهلل ونحمد الله في أيام العيد.

مضمون العيد في الإسلام هو شكر لله أن وفق العبد للطاعة في تلك العبادة التي سبقت العيد.

مضمون العيد فرحة رجاء أن نكون من المقبولين، المعتوقين من النار - إما في شهر الصيام حيث يعتق الله في كل ليلة رقاب من النار، أو في يوم عرفة حيث ما من يوم أكثر من أن يعتق رقابا من النار من ذلك اليوم.

والعيد في الإسلام في مضمونه يتماشى مع الفطرةº فالنفس البشرية تكل و تمل، وتتعب و تنصب، فكان من الحكمة أن يكون لها مجالا في المباح للراحة بعد النصب و للفرح بعد العمل، وحتى تستجم فيزداد نشاطها فتعود لعمل الصالحات بقوة و نشاط، و لهذا حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - صيام يوم العيد حتى تأخذ النفس شيء من الاستراحة، فإن مواصلة العمل يورث الكلالة و الملل (و إن الله لا يمل حتى تملوا).

 

أما من ناحية المظهر فالعيدان هما مظهر من مظاهر الشكر لله، و لهذا فهما يأتيان بعد عبادتين عظيمتين، الصوم و الحج.

نظهر الفرح في يوم العيد شكرا لله أن يسر لنا إتمام هاتين العبادتين الجليلتين قال - تعالى -: {قل بفضل و برحمة فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}.

و نظهر الفرح في يوم العيد شكرا لله أن جعلنا من أمة الإسلام، لا نعبد صنما، و لا ننسب له ولدا، و لا نغدو إلى بيعة أو كنيسة.

ونظهر الفرح بما أباح الله لنا من اللعب و اللهو في يوم العيد لأن في ديننا فسحة كما كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يفعل فلقد كان الحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، و يجعل عائشة تنظر إليهم، بل و كان يشجعهم على ذلك فيقول: (دونكم يا بني أرفدة، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة،إني بعثت بالحنيفية السمحة) وكان يسمح للجواري أن يضرب بالدف بين يديه و في بيته.

و لهذا فإن من الخطأ جعل العيد مناسبة للحديث عن المآسي و الأحزان، لا أقول ننسى هذه المآسي أو نتركها، ولكن نحن نفرح بالعيد كما أمرنا الله، لا فرح يُطغي و لا سرور يُنسي، بل هي الوسطية و الاعتدال.

 

يقول فضيلة الشيخ عبد الوهاب الطريري (في مقال نفيس في مجلة الدعوة –عدد 1919 بعنوان لا تقتلوا فرحة العيد): (ولكنك تعجب لتجاوز هذا الهدي النبوي المنير عند من يحاولون قتل أفراح العيد، و التضييق على مشاعر الناس، و كان ذلك يصدر في السابق من بعض العباد الزهاد، فروي أن عن بعضهم أنه رأى قوما يضحكون في يوم عيد، فقال: ((إن كان هؤلاء تُّقبل منهم صيامهم فما هو فعل الشاكرين، و إن لم يتقبل منهم فما هذا فعل الخائفين)) و كان بعضهم يظهر الحزن يوم العيد فيقال له: إنه يوم فرح، فيقول: لا أدري هل قبل صومه أم لا؟

 

ولئن صدر هذا من عباد و زهاد عن حسن نية، فإن مثله صدر اليوم من بعض الغيورين و عن حسن نية أيضا، فيجعلون الأعياد مواسم لفتح جراحات المسلمين، والنواح على مآسي المسلمين، وتعداد مصائبهم و التوجع لمل حل بهم و يذكرونك بأن صلاح الدين لم يبتسم حتى فتحت القدس... و يتناسون أن لكل مقام مقالا ولكل مناسبة حالا، و أن مآسي المسلمين ثمار مرة لخطايانا و أخطائنا

{قل هو من عند أنفسكم} و لن يكون علاجها بالوجوم و التحازن، ولكن بالرأي السديد، والعمل الرشيد و الشجاعة أمام الخطأ، و لو أنا قتلنا كل فرحة، وأطفأنا كل بسمة، و لبسنا الحزن، و تلفعنا بالغم، و تدرعنا بالهم، ما حررنا بذلك شبرا، و لا أشبعنا جوعة، ولا أغثنا لهفة، و إنما و ضعنا ضغثا على إبالة.

و خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، و قد كان يستعيذ من الهم و الحزن، ويعجبه الفأل، دائم البشر، كثير التبسم... و نحن أحوج ما نكون إلى أمل يدفع إلى عمل، و فأل ينتج إنجازا، أما المهموم المحزون فهو غارق في آلامه، متعثر في أحزانه، مدفون في هم يومه..) ا.هـ

ولهذا شرع لنا أن نقدم زكاة الفطر، وأن ننحر الأضاحي،و نتصدق منها، نتذكر بذلك إخواننا المسلمين في يوم العيد.

فلا إله إلا الله ما أعظم كمال هذا الدين، و ما أسمى منهجه.

أن الإسلام لا يحارب الفرح و المرح، بل الإسلام دين الفرح و دين البهجة و السرور، و هل يعمل المسلم في هذه الدنيا إلا من أجل الفرح الأكبر، و هل يجتهد في الطاعات إلا من أجل أن يدخل دار الفرح و السرور.

لكن الإسلام يجعل الفرح في حدود، ويجعل المرح في ضوابط حتى لا يطغي و ينسي مقاصد أعظم و أمور أهم.

العيد مظهر من مظاهر تلاحم الأمة، وتمثيل في أرض الواقع لحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)

فالعيد لا يكون فقط في قرية دون قرية و لا بلد دون بلد، و إنما يكون للمسلمين جميعا في مشارق الأرض و مغاربها،و لهذا شرع لنا أن نخرج في يوم العيد إلى الصحراء جميعا، و لا يترك أحد في البيت، حتى المرأة الحائض تخرج إلى المصلى، لماذا؟

حتى يشعر المسلم برابطة الأخوة الإيمانية، يخرج الأبيض و الأسود، الصغير و الكبير، الذكر و الأنثى، العربي و الأعجمي، في مكان واحد، ليصلوا صلاة واحدة و يسمعوا خطبة واحدة.

فأين هذا المظهر العظيم من أعياد الكفار التي يجتمعون فيها على السكر و العربدة و ارتكاب الفواحش و الموبقات و إذهاب العقول و العفاف، و كأنهم قطيع من البهائم حبست عن الملذات ثم أطلقت بعد ذلك، بل و الله هم أردى من البهائم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply