أبناؤنا . . والإجازة الصيفية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن من أجل نعم الله - تعالى - على عباده نعمة الوقت، فهو زمن حياة الإنسان وعمره، به أقسم الله - تعالى -فقال: {والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 1 - 3].قال الإمام الرازي - رحمه الله -: أقسم الله - تعالى -بالعصر وهو عموم الزمنº لما فيه من نفاسة الحياة وغلائها، التي ينبغي على الإنسان ألا يضيعه.هذا، ولعظم قيمة الوقت وأهمية الفراغ فيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). فالفراغ نعمة كبرى ومنحة جلى، لا يقدرها حق قدرها ويستفيد منها إلا العقلاء، وهم قلة، ولذلك قال: مغبون فيهما كثير من الناس، أي: مقصر وخسران، لأنه من غفل عن الفراغ وضيعه، ذهبت أيام حياته هدرا، ولم تنفعه الحسرة وتمنى رجوعه.

 

إن الإحساس بقيمة الفراغ وأهمية الاستفادة منه، يتفاوت من شخص إلى آخر، ويختلف من مجتمع إلى مجتمع، ولم يعرف التاريخ أمة اهتمت بالوقت واستفادت من الفراغ وعظمت شأنه كهذه الأمة الإسلامية، قال ابن عقيل من كبار فقهاء الحنابلة، وأحد أذكياء البشر كما في كتاب: (قيمة الزمن عند العلماء): إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، فإذا تعطل لساني عن قراءة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على الوقت والعلم وأنا في الثمانين، أشد مما كنت أجده وأنا في العشرين.

 

وها نحن قد حلت بنا الإجازة الصيفية، بدقائقها وساعاتها ولياليها وأيامها الطويلة، التي يمكن أن يجعل منها كثير من طلابنا وطالباتنا وشبابنا وفتياتنا، أراضي خصبة تزرع بكل مفيد ممتع، يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالخير والبر والعطاء، ويمكن ألا يكون كذلك، فتضيع أوقاتهم في نوم النهار وترك الواجبات الدينية والاجتماعية، ثم سهر الليل في الصخب واللعب وإزعاج الآخرين، بين لهو وضياع وثرثرة فارغة، ونزاعات وخصومات وقتل للأوقات، على حين تعمل مجتمعات أخرى وتكدح في كل دقيقة، بل في كل ثانية، من أجل زيادة أسباب العلم والمعرفة والقوة ودوام التقدم علينا، مع أن ديننا أمرنا باستثمار الوقت والاستفادة من الفراغ، ولا أدل على ذلك من أن الله - تعالى -أقسم بهº تعظيما لشأنه وتقديرا لقيمته...

 

إننا مدعوون إلى أن نكون كأسلافنا في تأكيد وجودنا في العالم، ماضين باسم الله وعلى بركته، نصنع طريق المجد ومعبر الخلود، بالعمل الجاد المثمر، واضعين نصب أعيننا قول الله - تعالى -: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} [التوبة: 105].

 

هذا، وإن من أهم ما يساعد على اغتنام الإجازة الصيفية والاستفادة من أوقات الفراغ فيها، التخطيط لها، وذلك بتحديد الأهداف والغايات التي يمكن أن تنجز فيها، وتنظيم الأعمال والآمال، وترتيب الواجبات، وإنزالها فيما يناسبها من أيام هذه الإجازة وساعته.

 

ففي المجالات الثقافية والعلمية: يمكن الاستفادة من الأوقات في التردد على المكتبات العامة، بشكل فردي أو مع مجموعة من الأصدقاء، وذلك للاطلاع على مجلة أو قصة، أو قراءة كتاب، أو قراءة مجموعة كتب خطط لها مسبقا، ثم تلخيص محتويات هذه المجلات والكتب ومناقشتها لمعرفة مدى الاستفادة منه.

 

كما يمكن للواحد أن يدرب نفسه على كتابة قصة قصيرة، ويعرضها على من يقومها له ويسدد عمله، ويمكن له أيضا أن يدرب نفسه على الكتابة، وذلك بتسطير ذكرياته وطموحاته وآماله، والوسائل المعينة على تحقيقه... أو ما يقوم بحفظ مختارات من الأحاديث النبوية، أو الشعر النافع المفيد الذي يحث على مكارم الأخلاق وعلو الهمة... أو يجمع مع زملائه له - بالتنسيق مع إمام المسجد - مادة علمية توضع في مجلة الحائط في مسجد الحي الذي يصلي فيه، وتشتمل على تراجم بعض الصحابة والبارزين في التاريخ الإسلامي، أو تراجم من سميت المساجد بأسمائهم، وأبرز أعمالهم، أو كتابة بعض الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها الناس، وما شابه ذلك من النصائح والتوجيهات والأذكار.

 

وفي هذا السياق أيضا: يمكن للفرد التعرف على جداول المحاضرات والمؤتمرات والندوات والدروس المقامة في المساجد والمراكز الثقافية وغيرها، والحضور إليها والاستفادة منها وتلخيص محتوياتها وأبرز معالمهم.

 

وكم هو جميل أن يقصد شبابنا العلماء والمفكرين والمبدعين ونحوهم، فيعينونهم على تحقيق بعض آمالهم وطموحاتهم، كفهرسة مكتباتهم، أو ترتيب أوراقهم، أو خدمتهم في شؤونهم العلمية والفكرية ونحوها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعامنا حقه... ) رواه أحمد والحاكم.

 

وفي المجالات الدينية: يمكن للواحد أن يخطط للابتداء في حفظ القرآن الكريم، أو حفظ بعض سوره، أو مراجعة محفوظاته منه، أو يعمد إلى تصويب قراءته للقرآن وتصحيحها مع من يجيد ذلك. أو يعين هو غيره على ذلك، وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

 

ويمكن أن يعمد الواحد من الشباب أو الفتيات إلى ترتيب أوقاته في قيام الليل، والإكثار من النوافل، وأداء صلاة الضحى، وصوم بعض الأيام التي ينشط لها، وملء بعض أوقات الفراغ بذكر الله - تعالى -وحمده وتمجيده والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم -....

 

كما يمكن له أن يشترك في رحلات تنظم لأداء العمرة في البيت الحرام، أو لزيارة المسج دالنبوي والسلام على رسول الله صل ىالله عليه وسلم.

 

وفي المجالات الاجتماعية: يمكن للشاب أو الفتاة أن يضع جدولا يوميا أو أسبوعيا أو غير ذلك، يشتمل على الأوقات المناسبة التي سيقوم فيها على التوالي بزيارة أرحامه وأقاربه وجيرانه وأصدقائه وأصدقاء والده... كل بحسب ظروفه وأحواله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة قاطع رحم). متفق عليه. وفي حديث آخر رواه الترمذي: (الخالة بمنزلة الأم). وقال في حديث ثالث: (إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه). رواه مسلم.

 

كما يمكن استثمار هذه الزيارات في خدمة هؤلاء الأقرباء والأرحام المسنين والضعفاء، وقضاء حوائجهم أو إعانتهم عليها، ففي الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه).

 

كما يمكن لمجموعة من الشباب أو الفتيات أن يقوموا بأنواع من الأعمال التطوعية كزيارة المرضى في المستشفيات ودور الرعاية، ليواسوهم ويجالسوهم ويقووا عزائمهم، وفي الحديث الشريف: (إذا عاد المسلم أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها). رواه مسلم.

 

وفي المجالات الترويحية: يمكن للواحد أن يشترك في المراكز والأندية الرياضية بما فيها من ألعاب مشروعة، من سباحة وجري وكرة ونحوها مما يقوي الجسم ويصقل الذهن ويريح النفس، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.

 

كما يمكن له أن يسهم في الأنشطة والرسوم والأشغال اليدوية والمسابقات والألعاب الذهنية التي تستثير الذكاء وتعمل على توقد الذهن...

 

كما يمكن العمل - بالتعاون مع الجهات المختصة - على غرس بعض الأشجار أمام البيوت والعمارات والمساجد ونحوه... أو زيارة المتاحف والحدائق والمتنزهات....

 

ويمكن استثمار بعض أوقاته في السياحة وزيارة بعض الأماكن العلمية والتاريخية والأثرية والاصطيافية، وتدوين الفوائد والمنافع التي جناها منه....

 

هذا، وهناك مجالات أخرى كثيرة يمكن استثمار الأوقات في الاشتغال بها، أو تعلمها، أو إجادتها والارتقاء بها، كالاشتراك في دورات تعقد لتعليم الخط العربي وتحسينه، وتعليم الكمبيوتر واللغات. أو المشاركة في أنشطة الجمعيات الخيرية والاجتماعية ذات النفع العام النسائية والرجالية. أو العمل الكلي أو الجزئي في فروع بعض المؤسسات والمصانع الأهلية أو الحكومية...

 

هذه بعض النماذج غير المكلفة، بل هي ممتعة ومفيدة للفرد والمجتمع، ويمكن بسهولة الاشتغال بها وبأمثالها في تعبئة أوقات الفراغ في الإجازة الصيفية، بدقائقها وساعاتها وأيامه.

 

وإن الدقائق والساعات في أعمار الأمم وحياة الأفراد لها وزن وحساب، وهي بمجموعها أيام كثيرة، إذا انقضت دون استثمار وفائدة انقضى معها عمر الإنسان بلا معنى، ورحم الله أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - حيث كان يقول: (إني أكره أن أرى أحدكم سبهللا - فارغا متعطلا - لا في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply