السهر والإجازة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، نعوذ بالله من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم أجرنا من النار، وأعتق رقابنا من النار، ورقاب آبائنا وأمهاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

أيها الإخوة المؤمنون، حديثنا في هذا اليوم عن ظاهرة خطيرة بُلي بها كثير من الناس، وخاصة في مثل هذه الأيام أيام الإجازة، وهي ظاهرة السهر، هذه الظاهرة السيئة الدخيلة على مجتمعات المسلمين لم يسلم منها إلا من رحم الله، صارت عند بعضهم علامة على الرقي والتقدم وعلى الحضارة والمدنية، حتى إنهم ينتقدون من لا يسهر، ويصفونه بالتأخر والرجعية، يستغربون لو قلت لأحدهم: نم بعد صلاة العشاء، ويعتبرون ذلك شذوذًا، فهم لا يبدأ ليلهم إلا بعد وقت العشاء بساعات، يستغلون الليل بهدوئه وسكونه ليسهروا، وعلى ماذا؟ على ماذا يسهرون؟!

أتظنون أنهم يسهرون على طاعة أو على طلب قربة لله - تعالى -كالذين قال الله عنهم: ( كَانُوا قَلِيلاً مّن الليل مَا يَهجَعُونَ وَبِالأَسحَـارِ هُم يَستَغفِرُونَ ) [الذاريات: 17، 18]؟! أوَ تظنون أنهم يسهرون كالذين وصف الله حالهم في سورة السجدة بقوله: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقنَـاهُم يُنفِقُونَ ) [السجدة: 16]؟! لا والله، إن أكثرهم يسهر على معصية الله، يحارب الله جل جلاله في وقت نزوله، حينما ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى، هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، حتى ينبلج الصبح. إنهم في هذا الوقت الكريم الفاضل، في هذا الوقت النفيس الذي ـ والله ـ لا يعادل بثمن، تجدهم يحاربون الله ويبارزونه بالمعاصي، يسهرون لمتابعة القنوات الفضائية، لمشاهدة ما حرم الله من مسلسلات هابطة وأغانٍ, ماجنة ومشاهد مثيرة، ومنهم من يسهر من أجل اللعب واللهو أو القيل والقال، وهذه المنكرات بحد ذاتها من الأمور الخطيرة ومن المعاصي الكبيرة من دون سهر، فإذا أضيف لها السهر فإن شرها يتفاقم وخطرها يتعاظم، نسأل الله العافية.

أيها الإخوة المؤمنون، إن لظاهرة السهر نتائج ضارة، لا سيما إذا كانت على معصية، وهي كذلك عند كثير منهم، ومن نتائجها تضييع صلاة الفجر، فالذي يسهر إلى قبيل الفجر ثم ينام أيستطيع الاستيقاظ من النوم لتأدية صلاة الفجر؟! لا أظن ذلكº لذا تجده دائمًا تفوته الصلاة، وإضاعة الصلاة جريمة عظمى وكبيرة من كبائر الذنوب وصفة من صفات المنافقين، يقول - تعالى -: (فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلَـوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوفَ يَلقُونَ غَيًّا ) [مريم: 59]، وغَيُّ هو واد في جهنم بعيد القَعر خبيث الطَّعم من قيح ودم، لمن؟ لهؤلاء الذين أضاعوا وقت الصلاة بسبب اتباع الشهوات: مباريات، مسلسلات، وغير ذلك من الشهوات التي يسهر كثير من الناس من أجلها.

ويقول - تعالى -: (فَوَيلٌ لّلمُصَلّينَ الَّذِينَ هُم عَن صَلَـاتِهِم سَاهُونَ ) [الماعون: 4، 5]، وويل أيضًا هو واد في جهنم، وقيل: شدة العذاب، جعله الله للذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.

وكذلك تأخير الصلاة من صفات المنافقين، فهم كما قال - تعالى -: ( إِنَّ المُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) [النساء: 142].

فالسهر سبب من أسباب تأخير الصلاة عن وقتها الذي جعله الله لها، بل هو سبب من أسباب ترك الصلاة مع الجماعة، فالذي يسهر تجده يصلي في بيته، ويتخلف عن الصلاة مع جماعة المسلمين، وقد همّ النبي بأن يحرق بيوت الذين يتخلفون عن الصلاة، هَمَّ أن يضرم بها النيران، فالذين لا تراهم في صفوف المصلين في صلاة الفجر غالبًا هم الذين يسهرون. فالسهر يفوّت الصلاة، ولو فرضنا جدلاً أن هذا السهران حضر للصلاة فإنه سوف يصلي متكاسلاً مرهقًا تعبًا، يصارع النوم من شدة النعاس، ومن ثم لا يدري ما يقول، وهذه أيضًا بحدّ ذاتها مشكلة، وسببها السهر.

أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، ويرزقنا الفقه في الدين، إنه سميع مجيب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون، ومن نتائج السهر فعل ما كرهه الرسول، فالمسلم يحرص دائمًا على فعل ما يحبه الله - عز وجل - وما يحبه رسوله، ويحذر كل الحذر من ارتكاب ما يكرهه الله ورسوله، والسهر من الأمور التي كرهها النبي، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي برزة - رضي الله عنه - أن رسول الله كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.

ومنها أيضًا تفويت المصالح في النهار، فالذي يسهر الليل دائمًا ينام خلال النهار، وفي هذا تفويت لعدة مصالح تكون في النهار، منها حرمان بركة أول النهار، فإن لأول النهار بركة أخبر بها النبي بقوله: ((بورك لأمتي في بكورها))، ومنها التكاسل في العمل إن كان عاملاً، وفي الدراسة إن كان طالبًا، بل حتى فيما يحتاجه الأهل في البيت، فالذي يقضي ليله في السهر لن يكون فعالاً في عمله ولا في دراسته ولا في أسرته، بل يكون فاشلاً عالة على غيره.

ومنها مخالفة الفطرة التي جعلها الله - عز وجل - للإنسان في هذه الحياة، فقد قال - سبحانه -: ( وَجَعَلنَا الَّيلَ لِبَاسًا وَجَعَلنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) [النبأ: 10، 11]، وصاحب السهر معكوس الفطرة، حيث جعل الليل للسهر والنهار للنوم.

فلنحذر هذه الظاهرة الخطيرة ظاهرة السهر، وإن كان لا بد فلنجعله في موازين أعمالنا الصالحة كقيام الليل وطلب العلم وتلاوة القرآن الكريم.

أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply