الإجازة ونعمة الفراغ


 

بسم الله الرحمن الرحيم  

الخطبة الأولى:

أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة المؤمنون، من النعم العظيمة التي تحصل للعبد في هذه الحياة نعمة الفراغ، نعم أيها الإخوة، الفراغ بأن يكون العبد فارغًا من مشاغل هذه الحياة، يقول النبي في الحديث الصحيح: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فالفراغ من النعم العظيمة، وفي هذا الحديث تذكير لكل مسلم بهذه النعمة، والتي من واجبها عليه اغتنامها واستعمالها بما يعود عليه بالنفع دنيا وأخرى، وإن لم يكن كذلك فإنه في عداد المغبونين.

وتأملوا ـ أيها الإخوة ـ قول نبيكم، يقول: ((مغبون فيهما كثير من الناس)) أي: أن الذين يوفَّقون لاغتنام نعمة الصحة ونعمة الفراغ قلة، القلة هم الذين يسلمون من الغَبن، أما الكثرة أكثر الناس ـ والعياذ بالله ـ مغبون، مغبون لماذا؟ لتفريطه وعدم مبالاته بنعمة الصحة والفراغ.

أيها الإخوة، ونحن في هذه الأيام نعيش بداية الإجازة، إذ تفرغ كثير من الناس وخاصة الشباب منهم، لا سيما من هم على مقاعد الدراسة من الذكور والإناث، وهذا مما يزيد الأمر خطورة، فإذا اجتمع الشباب والفراغ فلا تسل عن النتائج، إنما قل: اللهم سلم سلم، يقول الشاعر:

إن الفراغ والشباب والجِده *** مفسدة للمرء أي مفسده

الفراغ والشباب والجدة ـ يعني الغنى ـ مفسدة للمرء، هذا ما قاله هذا الشاعر قبل عشرات السنين، قبل أن يكون هناك استراحات يستأجرها الأحداث وصغار السن ليعكفوا بها على ما حرم الله، وقبل أن يكون هناك مقاهٍ, ـ أعزكم الله ـ للمُعَسَّل ونحوه، وقبل أن يكون هناك مقاهٍ, للإنترنت، وقبل أن يكون هناك أنواع من المخدرات، قبل أن يكون هناك سيارات تنقلهم من بلد إلى بلد، وطائرات يسافرون من خلالها لبلاد الكفار وغيرهم.

فقضية فراغ الشباب قضية خطيرة، والاهتمام بها من أوجب الواجبات، فإذا كان الواحد منا يضع يده على قلبه من الخوف الشديد الذي ينتابه على بعض الشباب وقت انشغالهم فكيف بهم وقد تفرغوا؟! كيف بهم والواحد منهم ينام النهار ويسهر الليل وقد توفر ت له سبل الفساد والانحراف؟!

أيها الإخوة المؤمنون، إن هذا الفراغ الذي سوف يمر به أبناؤنا إذا لم يغتنم بالخير فإنهم سوف يستعملونه في الشر، ولنكن ـ أيها الإخوة ـ صرحاء، أبناؤك إذا لم تشغلهم بالخير فإنهم سوف يجدون من يشغلهم بالشر.

ومن رعى غنمًا في أرض مَسبَعَة *** ونام عنها تولى رعيها الأسد

 

إذا لم نعمل على حفظ أوقاتهم واغتنامها بما ينفعهم من أمور الدنيا والدين فإنهم سوف يقضون أوقاتهم بما يعود وبالا عليهم وعلى أسرهم، بل وعلى مجتمعهم وأمتهم.

فينبغي لنا أن نرسم الخطط لهذا الفراغ الذي سوف يخرج منه أبناؤنا إما بصلاح وإما بفساد. نعم إخوتي في الله، ثلاثة أشهر أو أكثر كفيلة بأن تشكل حياة الشاب وترسم أوضاعه، فهذه الثلاثة قد يحفظ فيها أجزاء كثيرة من كتاب الله وعددًا كبيرًا من أحاديث النبي، قد يلازم فيها درسًا لأحد المشايخ فيصير طالب علم أو داعيًا إلى الله - تعالى -. ثلاثة أشهر قد يلازم الابن والده والبنت أمها، فيتعلمان منهما الكثير، فالابن يتعلم معاني الرجولة ويتعود الاعتماد على النفس، والبنت تتعلم من أمها مهام النساء، لتعتمد على نفسها بعد ذلك. وهذا قد يكون في هذه الثلاثة أشهر إذا استغلت استغلالاً صحيحًا، وخطّط لها تخطيطًا سليمًا.

وأما إذا لم يخطط لها وترك الشاب والشابة يسهر الواحد منهم طوال الليل عند القناة الفلانية لمتابعة برنامج ساقط وعند القناة الأخرى لمشاهدة مسلسل هابط وعند ثالثة لرؤية جسد عار وعند رابعة لرؤية ومشاهدة ما يجعل الشاب أحيانًا يقع على أخته فسوف تنتهي الثلاثة أشهر بشهادة ذات تقدير عال في عالم الانحراف والضياع والفساد لكل شاب وشابة.

فلنعمل ـ أيها الإخوة ـ على اغتنام أوقات فراغ أبنائنا، ولنهتم بهذا الأمر الذي سوف نكون أول من يجني ثماره، نعم أول من يجني ثماره مهما كانت هذه الثمار حلوة أو فاسدة، لذيذة أو مرة، " وَالبَلَدُ الطَّيّبُ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذنِ رَبّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيَـاتِ لِقَومٍ, يَشكُرُونَ " [الأعراف: 58].

أيها الإخوة المؤمنون، إن قضية الفراغ قضية مهمة، يجب أن لا يستهان بها، وأن لا يغفل عنها، ولا أدل على ذلك من الاعتناء بها في كتاب الله ومن حرص النبي عليها وأمره باغتنامها وحثه على استغلالها، يقول جل جلاله: " فَإِذَا فَرَغتَ فَانصَب وَإِلَى رَبّكَ فَارغَب " [الشرح: 7، 8]، ويقول النبي: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))، فذكر منها الفراغ قبل كثرة المشاغل.

أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة، إنه سميع مجيب.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يُجنى من الشوك العنب، فوالله الذي لا إله غيره، لن نعمل على حفظ أوقات أبنائنا ونحن مفرطون في أوقاتنا، فلنكن قدوات خير لا قدوات سوء في كل شيء، لا سيما في قضية الوقت والفراغ.

فلنهتم بحفظ أوقاتنا نحن قبل أن نهتم بحفظ أوقات أبنائناº لأن الاهتمام بالوقت من صفات الصالحين، والتفريط فيه وإضاعته من أبرز عادات المفرطين، فالله الله في حفظ أوقاتكم، فالواحد منكم ما هو إلا أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضه، تقول رابعة: "يا سفيان، إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل"، ويروى عن وَهب بن منبه - رحمه الله - أنه قال: "ينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها هو وإخوانه والذين ينصحون له في دينه ويصدقونه عن عيوبه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاته فيما يحل ويحمد، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات، وفضل بلغة واستجمام للقلوب".

أسأل الله - تعالى -أن يعينني وإياكم على حفظ أوقاتنا واغتنام فراغنا بما يفيدنا وينفعنا، وأن يجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، إنه سميع مجيب.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply