بسم الله الرحمن الرحيم
ها هو الصيف قد أقبل، وشمس آب اللهاب تطارد الناس وتستحثهم على حزم حقائبهم بعيداً عن أشعتها الحارقة.
هناك الكثير من المنتجعات السياحية والمدن التي تغريك بطبيعتها الخلابة وجمال أجوائها بزيارتها وقضاء إجازة ممتعة في ربوعها وبين جنباتها..بعيداً عن صخب المدن الكبيرة وضجيجها اليومي وضغوط الدوام الرسمي وإيقاعه الممل.
فتعال - معي - أخي القارئ في سياحة ذهنية لنتعرف معاً على حكمة الشارع وسماحة الإسلام التي جاءت بالوسطية والاعتدال فلا غلو ولا رهبانية ولا شطط فيما يتعلق بالترويح والترفيه واللهو البريء، لنسلط الأضواء على هذا النوع من أنواع الأنشطة الإنسانية التي يمارسها الكبير والصغير على حد سواء.
توطئة:
لم تكن السياحة تمثل هاجساً لإنسان جزيرة العرب في قرون الإسلام الأولى لسببين:
أولهما: أن المسلمين كان همهم الأول وشغلهم الشاغل التوسع في الفتوحات وإظهار دين الله وتبليغ رسالة الإسلام وتعاليمه السمحة.
وثانيهما: الظروف البيئية المحيطة بذلك الإنسان حيث الطبيعة الصحراوية القاسية التي ألقت بظلالها السالبة على نمط حياته البدائية وأسلوب تفكيره، فقد كان العربي مكبلاً بأغلال الفقر والجهل، والسياحة والتجوال في الأرض- كما هو معلوم إنما هي ضرب من الترف عماده الاستطاعة واليسار، وهذا ما لم يكن متاحاً لبني يعرب وقتذاك.
فلا غرابة إذن أن تخلو كتب الأصوليين من الإشارة إلى السياحة وتسويد الصفحات حولها بالمعنى السائد عن هذا الفعل الإنساني في وقتنا الحاضر و(المسمى سياحة).
كثيراً ما يخلط البعض بين مصطلح السياحة المعاصر والذي يعني السفر من أجل الاستجمام والترويح عن النفس، وبين مفهوم السياحة التي ذمها وحذر منها المتقدمون من أهل العلم لمخالفتها هدي الإسلام والمتمثل في سياحة النساك وأهل التبتل من الزهاد، الأمر الذي يخرجها عن مضمونها ويبعدها عن مقاصد الشريعة، ويذهب بها إلى مشابهة المتنسكين من أهل الملل والنحل الفاسدة كالبوذية ومن في حكمها.
وحجة أولئك المانعين لهذا الفعل ما روي عن الإمام أحمد من أن (السياحة ليست من الإسلام في شيء) وكذا ما نقل عن ابن تيمية من أنه (أمر منهي عنه).
فهذه الأقوال محمولة على السياحة الخاصة بأهل الزهد المنقطعين عن الناس في الكهوف والمغارات، وفعلهم ذاك ما هو إلا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم، لم تكتب عليهم ولم يؤمروا بها.
وإن محاولة إسقاط ذلك المفهوم المذموم على حال السياحة المعاصرة بمفهومها المستقر في الأذهان والمنصرف إلى الترويح والبعد عن جو الرتابة والملل، واستعادة الحيوية والنشاط، لا يصح مطلقاً، لأن إنزال تلك النصوص المروية عن أولئك الأعلام على واقع السياحة المعاصر تجريد لهذه النقول من سياقها الذي وردت فيه.
والصحيح أنها تأخذ حكم السفر، فإن كان القصد من السفر مباحاً، فهي مباحة والعكس صحيح، (فمدارها النية). وهو ما ذهب إليه أهل العلم المعاصرون.
ومعلوم أن الآيات الكريمات التي وردت بلفظ السياحة في القرآن الكريم تعني (الصيام) كما ذهب إليه جمهور المفسرين وعلى رأسهم الحبر ابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهما -، ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن رباح والضحاك وابن عيينة وغيرهم. وأعني الآيات الواردة في سورة التحريم (ا) (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً) وسورة التوبة (2) (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون.. الآية).
وإليك أخي القارئ هذه النماذج التي تدل على سماحة الإسلام و أن من خصائصه الشمول والتوازن، فلم يطغ فيه جانب على حساب آخر.
• سماحة الإسلام وإبراز محاسنه المتمثلة في:
سماحه - عليه الصلاة والسلام - لعائشة اللعب بالبنات مع صويحباتها - مع جلالة قدره ومكانته عند الله، فداه أبي وأمي ويأتي التعليل قاطعاً الطريق على دعاة الرهبنة والكهنوت (لتعلم يهود إن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة) (3)).
• دعوة إلى محاربة الرتابة والروتين:
إن التبسط مع الأبناء والزوجات وإدخال الأنس عليهم والمزاح معهم لا يعني بالضرورة أن الشخص قد انسلخ عن طابع الجدية والفطرة السوية،، بل هو مما جبلت عليه الفطر السليمة، وهو الذي يتوافق مع ما دعت إليه الشريعة من الموازنة بين احتياجات الروح والبدن، يقول - عليه الصلاة والسلام - لحنظلة- الذي جاءه يشكو قساوة قلبه وعدم ثباته على الحال التي يكون عليها قلبه حين يكون مع المعلم القدوة صلوات ربي وسلامه عليه- حين ينقلب إلى أهله فيعافس الأزواج والأولاد والضيعات نا سياً ما وعظ به عند الحبيب المصطفى - عليه السلام -، فيأتي الإرشاد (والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة يرددها ثلاث مرات) (4).
• إدخال البهجة والسرور في نفوس الناشئة:
إن مما تواترت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبه مداعبة الصغار وإدخال السرور عليهم والاحتفاء بهم، ولعل في قصة الحسن والحسين اللذين كانا يحظيان برعاية خاصة من جدهما - عليه الصلاة والسلام -، ترجمة واضحة ودعوة صريحة، للاهتمام بالناشئة وصغار السن، وقد أخذ ذلك عنه الصحابة رضوان الله عليهم فكانوا يلاعبون أطفالهم، ويتوددون إليهم بالهدايا والمنح، فأين نحن من هذه النماذج الحية، حيث حل التجهم والعبوس مكان البسمة والانشراح، بحجة أن ذلك يتعارض مع هيبة الرجل وشخصيته.
• دعوة إلى كمال الأجسام ورياضة الأبدان:
من أنواع الترفيه التي درج عليها الأوائل وشجعوا عليها أبناءهم حتى يتكامل بنيان الجسم مع سلامة العقل، مختلف الرياضات التي تنمي العضلات وتساعد على النشاط والقوة من ذلك رياضة الرماية، والسباحة، والغطس، وسباقات العدو على الأقدام وركوب الخيل والمبارزة بالسيف، والمصارعة، وكل ذلك مروي عن الرسول - عليه السلام - الذي ضرب لنا أروع الأمثلة في الترفيه والترويح مع الزوجة حين سابق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في أحد أسفاره فسبقته في الأولى، وهي يومئذ رشيقة لم تحمل اللحم، فسابقها ثانية وقد حملت اللحم فسبقها وقال (هذه بتلك) (5). فأين أولئك الذين يتعللون بكثرة المشاغل ويتذرعون بالحجج الواهية عن إدخال السرور والمرح على أهلهم، وما علموا أن مما يؤجر عليه المرء إدخال السرور على أهل بيته، وهذه دعوة لنبذ التكرش والترهل، والتمتع بجسم رشيق معافى فأين المشمرون!.
• وهناك العديد من ألوان النشاط الترفيهي:
التي ينبغي مزاولتها والمداومة على ممارستها، رغبة في تجديد النشاط، والبعد عن جو الرتابة والملل وتنشيطاً للذهن وتجديدا للدورة الدموية، فالقلوب كما الأبدان تمل فلا بد من إجمامها بين الفينة والأخرى، كما قال علي - رضي الله عنه - (أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان).
وأخيراً لو لم يكن في السياحة إلا ما ذكره الإمام الشافعي من الفوائد لكفى:
تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ما جد
وهذا غيض من فيض عن ما جاء في الترويح والترفيه من الفوائد، فالهدف هو تجدد النشاط وطرد الكسل والإقبال على العبادات بنهم وشوق، ولعل هذا ما يلحظه المتأمل لحكمة الشارع التي شرعت العيدين بعد جهد وعناء يقوم به العبد المسلم من القرب والعبادات والصوم والقيام والدعاء، فعيد الفطر المبارك يعقب صيام الشهر الفضيل المتضمن للقيام والصيام وأنواع القربات فيأتي العيد لتجديد النشاط والحيوية، وكذلك عيد الأضحى المبارك يأتي بعد الوقوف بعرفة وما فيه من دعاء ومشقة السفر والغربة، ولغير الحاج ما يتيسر من صوم الأيام العشر ويوم عرفة.
فالحمد الله على نعمة الإسلام وسماحة الشريعة الغراء التي جاءت بالتوازن والاعتدال ونبذ التطرف والغلو والكلال!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآية (5) من سورة التحريم.
(2) من الآية (112) من سورة التوبة.
(3) رواه الإمام احمد في مسنده (6/16).
(4) رواه مسلم في (كتاب التوبة، فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة).
(5) رواه أبو داود الحديث رقم (2578).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد