الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بين الاتباع والابتداع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أكمل الله على يديه الدين، وأتمَّ به النعمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

 وبعد..

فإن خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرٌّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة.

 

 مع إطلالة كل عام هجري أضحى من الواجب على أهل العلم وطلابه أن يذكّروا إخوانهم المسلمين بأمر لا يُعين عليه إلا الله، فقد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ألا وهو الاحتفال بمولده الشريف - صلى الله عليه وسلم -، في ربيع الأول من كل عامº وذلك لأن الذكرى واجبة، نفعت أم لم تنفع، معذرةً إلى الرب ولعلهم أو بعضهم يتقون.

 

وقبل الشروع في المقصود، وهو بيان حكم الشرع في هذا العمل، هناك تمهيدات ومقدمات لابد من التنبيه عليها، والإشارة إليها، لصلتها الوثيقة باستيعاب حكم الشرع في هذا العمل، فأقـول وبالله التوفيق:

 

المقدمة الأولى:

ما حقيقة محبة الله - عز وجل - والرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وما علامة ذلك؟

حبٌّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان وبغضه كفر ونفاق، بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ماله، وولده، ونفسه التي بين جنبيه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -.

 

لقد بين الله - سبحانه وتعالى - حقيقة هذه المحبة ودل على علامتها، حيث قال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" سواء كان سبب نزولها كما قال ابن جرير - يرحمه الله -: (أنزلت في قوم قالوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا نحب ربنا" فأمر الله - عز وجل - نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك)، أو كانت نزلت في وفد نجران ـ كما ذكر ـ الذين قدموا عليه من النصارى: (إن كان الذي تقولون في عيسى من عظيم القول، إنما تقولونه تعظيماً لله وحباً له، فاتبعوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -).

 

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسيره: (هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي جعل متابعته، وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانـه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما).

 

وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير له: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي، في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" متفق عليهº ولهذا قال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب إنما الشأن أن تُحَب).

 

فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهماº فالحب الوجداني وحده لا يكفي، على الرغم من أهميته، ما لم يكن مقروناً بحب الاتباع والانقياد والطاعة له - صلى الله عليه وسلم -، بأبي هو وأميº إذ لو كان وحده كافياً نافعاً لنفع أبا لهب الذي أعتق جاريته ثويبة لأنها بشرته بولادة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولنفع أبا طالب في الخروج من النار، فقد كان محباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حامياً له، بله مادحاً له ولدينه.

 

ومن العجيب الغريب قصر البعض، هدانا الله وإياهم سبل السلام، محبته - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين القصائد والمدائح، التي لا تخلو غالباً من الغلوّ إن سلمت من الشركيات، والرقص والتواجد، وإحياء الحوليات، والاحتفال بالمواليد، بل لقد بلغ الغرور ببعضهم أن يحكم على من لا يقرّهم على ذلك، ويشاركهم فيه، ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم -!! وهذا لعمرالله من الافتراء المبين، والظلم المشين، والغرور اللئيم، حيث قلبوا الموازين، وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين، حيث جعلوا البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً.

 

المقدمة الثانية:

هل هناك بدعة حسنة محمودة، وأخرى سيئة مذمومة؟

 

اعلم أخي الحبيب، وفقني الله وإياك، أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي:

 

بدعة لغوية

وهي كل أمر حادث، سواء كان في العادات أو العبادات، نحو اختراع الساعة، والسيارة، ومُكبّر الصوت، وما شابه ذلك، وهي من المباحات.

 

بدعة شرعية

وهي كل أمر مُحدث ليس له أصل في الدّين يُراد به التقرب إلى الله - عز وجل -، فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور، والسماع الصوفي، وما شابه ذلك.

 

بدعة إضافية

 وهي أن يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه عُمِل بكيفية غير مشروعة، نحو: الذكر بالاسم المفرد "الله، الله" أو"هو، هو"، وما شابه ذلك.

 

والذي يعنينا هنا هو البدعة الشرعية، وهل فيها حسن وقبيح؟

 

اعلم أخي الموفّق إلى كل خير أن البدع كلها سيئة وباطل، وإن كانت متفاوتة في السوء، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروهº وكلها مردودة على صاحبها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإليك طرفاً من الأدلة على ذلك:

• حديث عائشة في الصحيح ترفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ"، متفق عليهº وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، فالمخترِع للبدعة والمقلّد له فيها سواء، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -.

 

• حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضٌّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة".

 

وكلمة "كل بدعة" نكرة في صيغة العموم، تشمل كل بدعة صغيرة كانت أم كبيرة، جليلة كانت أم حقيرة، سواء كانت قولية، أو عملية، أو اعتقادية.

 

• حديث جابر في خطبته - صلى الله عليه وسلم -: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

 

• قوله - عز وجل -: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"، فالدين قد تمّ وكمُل، وماذا بعد التمام والكمال إلا النقص والخسران؟

 

ولهذا قال الإمام مالك: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وقال: "من زعم أن الدين لم يكتمل فقد زعم أن محمداً خان الرسالة".

 

ويتشبث البعض في تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة ببعض الشبه، ويتذرع ببعض الآثار والأقوال نشير إليها مع دحضها، نحو:

 

• قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتدع بدعة ضلالة"، أُخِذ منه بمفهوم المخالفة الذي يقول به بعض الأصوليين أن هناك بدعة حسنةº وكلمة ضلالة هنا لا مفهوم لها كما لا مفهوم لكلمة "أضعافاً مضاعفة" في قوله - تعالى -: "لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة" الآية.

 

قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - رادّاً لهذه الشبهة ودافعاً لها: (... الإضافة فيه لا تفيد مفهوماً وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ـ فإن الدليل دلّ على تعطيله في هذا الموضع كما دلّ الدليل على تحريم قليل الربا وكثيره، فالضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً).

 

• قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

 

فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك عندما حثَّ على الصدقة المشروعة على بعض المجهدين من الأعراب، فسارع إلى ذلك أحد الأنصار فجاء بصرَّة كادت يده تعجز عنها بل عجزت ـ كما في الحديث ـ فتتابع الناس على الصدقة حين رأوه، فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك وقال: "من سنّ في الإسلام.. " الحديث.

 

فمراد الحديث: من أحيى في الإسلام سنة قد أميتت، لا أن يُحدث فيه أمراً جديداً لا أصل له.

 

• قول عمر - رضي الله عنه - عندما جمع الناس في صلاة القيام على أُبَيِّ بن كعب وقد كانوا يصلونها جماعات متفرقة، فدخل المسجد و سره اجتماعهم: "إن كانت هذه بدعة فنعمت البدعة هي".

 

فالمراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لا الشرعية، إذ صلاة القيام جماعة لها أصل في السنة، فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومين أو ثلاثة، وعندما اجتمعوا له بعد ذلك لم يخرج عليهم خشية أن تُفرض عليهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب التخفيف على الأمة، بجانب أنها من عملِ عمر وعملُ عمر سنة يُقتدى بها.

 

• زعم بعض أهل العلم ـ القرافي وابن الصلاح - رحمهما الله - أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وهذا وهم منهما وممن قلدهما، والله يتجاوز عنا وعنهما، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت منزلة القائل.

 

المقدمة الثالثة:

هل هناك من علاقة بين المصالح المرسلة وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين؟

هناك خلط بين البدع والمصالح المرسلة، والمصالح المرسلة هي كل ما جلب خيراً أو دفع ضراً، ولم يرد في الشرع ما يثبته أو ينفيه، مع موافقته لمقاصد الشرع وحاجة الناس الماسة له، نحو كتابة القرآن وجمعه في مصحف في عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما -، وكتابة العلم، وتدوين السنة، واتخاذ المحراب، وسنّ عثمان للأذان الأول للجمعة عندما توسعت المدينة وكَثُر الناس بها، ونحو ذلكº فهل هناك من علاقة بين هذه المصالح المرسلة من ناحية وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين، نحو الاحتفال بالموالد والحوليات وما شاكلها؟ هل هناك من علاقة بين ما فعله السلف الصالح، واقتضته المصلحة، وحتّمته الحاجة، وبين ابتداع الخلَف لأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلَم من الأعلام؟! اللهم لا وألف لا.

 

متى ظهرت بدعة الاحتفال بالمولد الشريف؟ ومن أول من أحدثها؟

لم تظهر هذه البدعة إلا في نهاية الربع الأول من القرن السابع الهجري، أي في عام 625هـ، على يد الملك المظفّر أبي سعيد كوكبري صاحب إربل سامحه الله، المتوفى 630هـ، أحد حكام المماليك.

 

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه: (وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً... وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه: "التنوير في مولد البشير النذير"، فأجازه على ذلك بألف دينار.

 

ثم حكى عن سبط ابن الجوزي أنه قال: حكى بعض من حضر سِماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر(!!)، ويرقص بنفسه معهم(!!).

 

فلو كان الاحتفال بالمولد الشريف ديناً مشروعاً لما غفل عنه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان في القرون الفاضلة وعُني به المتخلفون عن السنةº والله لو كان خيراً لما سبق إليه المظفر وقصر عنه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم ينبه عليه الأئمة المقتدى بهمº فالخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداعº ورحم الله مالكاً الإمام فقد كان من أشد الأئمة بغضاً للابتداع في الدين ولهذا كان دائماً ينشد:

 

 وخيرُ أمورِ الدينِ ما كان سنةً  وشرٌّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ

 

ولله در التابعي الجليل والإمام القدير وأحد تلاميذ ابن مسعود - رضي الله عنه - إبراهيم النخعي - رحمه الله - حيث قال: (لو رأيت الصحابة - رضي الله عنهم - يتوضؤون إلى الكعبين ما توضأت إلا كذلك وأنا أقرأها إلى المرفقين وذلك أنهم لا يُتهمون في ترك سنة، وهم أرباب العلم، وهم أحرص خلق الله على اتباع رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يظن ذلك بهم أحـد إلا ذو ريبـة).

 

أقوال وفتاوى بعض أهل العلم في بدعية الاحتفال بالمولد الشريف:

لقد أفتى العديد من أهل العلم قديماً وحديثاً ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف، ولكننا سنشير إلى فتوى ثلاثة من الأقدمين وهم:

 

تاج الدين عمرو بن علي اللخمي الشهير بالفاكهاني (654 734ه)

وهو الفقيه المالكي صاحب شرح الفاكهاني على الرسالة، وقد صرح هذا العالم الرباني ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف في أي صورة من صوره في كتاب له أسماه "المورد في الكلام عن عمل المولد"، جاء فيه: (... أما بعد فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحَدَث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً، وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالونº وبدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماًº وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً، لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمتُ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله - تعالى -إن عنه سئلتُº ولا جائز أن يكون مباحاً لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمينº فلم يبق إلا أن يكون مكروهاُ أوحراماً، وحينئذ يكون الكلام فيه من فصلين، والتفرقة بين حالين:

أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه، و لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثامº وهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشنيعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يُؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال حياءً كأخذه بالسيفº لا سيما إذا أنضاف إلى ذلك شيء من الغناء، مع البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم، وإما مشرفات.

 

إلى أن قال:

(وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمـور المنكرات المحرمـات، فإنـا لله وإنـا إليه راجعـونº بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ).

 

الحافظ أحمد بن علي بن حجر (المتوفى سنة851هـ) - رحمه الله -

نقل عنه السبوطي - رحمه الله -: (وقد سئل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة).

 

ولا غيرهم! ثم عاد فحسّنها إذا تُحرِّي في عملها المحاسن(!!)، وهذا فيه تناقض، فليت شعري كيف تكون عبادةً حسنةً مهما تحروا فيها من المحاسن إذا لم يتعبدنا الله بها، ولم يفعلها السلف الصالح؟!

 

ابن الحاج المالكي (1060-1128/1129هـ) - رحمه الله -

قال: (ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد.

إلى أن قال: وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسّماع، فإن خلا منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسَلِم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف الماضين... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما يسعهم).

 

فها نحن نرى أن علماء الإسلام جزاهم الله خيراً بينوا حكم الشرع في عمل المولد واعتبروه من البدع الحادثات والمنكرات منذ ظهور هذه البدعة، وما فتئوا في كل وقت وحين ينبِّهون على ذلك، فما أحسن أثر العلماء على الناس، وما أقبح أثر الناس على العلماء.

 

شبه يرفعها المجيزون للاحتفال بالمولد ودحضها:

يرفع المجيزون للاحتفال بالمولد شبهاً ضعيفة وحججاً واهية يتشبثون بها في عمل المولد، وهي شبه مدفوعة من غير دفع، و لولا خشية أن يتأثر بها من يسمعها أو يقرأها لما سُطّرت في دفعها كلمة واحدة.

 

وقد تولى كبر هذه الشبه الشيخ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - وسامحه، وقد سجل هذه الشبه في رسالة له بعنوان: "حسن المقصد في عمل المولد"، مُتَضَمَّنة في الحاوي للفتاوى، ومن ثمَّ قلده فيها المقلدون من غير نظر ولا بصيرة، ومن العجيب اعتبار السيوطي هذه الشبه أصولاً بنى عليها جواز الاحتفال بالمولد(!!)، والشبه هي:

• قوله - صلى الله عليه وسلم - معللاً لصيـام يوم الإثنين: "ذلك يـوم ولدتُ فيـه"، قـال السيوطي: (فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد فيه، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله)!

 

أقول: لو اكتفى المجيزون للاحتفال بمولده الشريف - صلى الله عليه وسلم - بصيام يوم الثاني عشر من ربيعِ الأول لما كان لهم في هذا الحديث دليل، دعك من أن يحتفلوا به، وعجباً لهذا الفهم الذي أُوتيه الإمام السيوطي - رحمه الله - ولم يخطر ببال أحد من سلف هذه الأمة الذين هم خيرها وأفضلها ولا بال خلفها، فوالله لو كان هذا الفهم سائغاً لما غفلت عنه القرون الفاضلة واُستدرك في القرن العاشر، قرن التخلف والانحطاط.

 

• أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قدم المدينة ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، سألهم عن سبب صيامه فقالوا: هذا هو اليوم الذي نجّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وحزبه، فنصومه شكراً لله.

 

قال السيوطي تبعاً لابن حجر: فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود، والصيام، والصدقة، والتلاوةº وأيٌّ نعمة أعظم ببروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء.

 

ثم قال: فهذا ما يتعلق بأصل عمله.

 

قلتُ: إن كانت هذه أمثل حجج القوم في الاحتفال فما لهم والله من حجة، فاستنتاج هذا الفهم من علة صيام يوم عاشوراء لا يقل عجباً وغرابة من الشبهة السابقة، وهذا من أفسد الأقيسة وأبطلها.

 

ثم نعود فنقول: لماذا لم يرد هذا الفهم وذاك الدليل على خير القرون، الذين وصفهم ابن مسعود - رضي الله عنه - ولا ينبئك مثل خبير بأنهم: "أَبَرٌّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً".

 

• أما الشبهة الثالثة التي برر بها الإمام السيوطي جواز الاحتفال بالمولد الشريف فهي رواية لم يوضِّح مخرجها ولا درجة صحتها، حيث قال: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع والطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات).

 

هذه الحادثة ولو صحت لما كان فيها دليل لما رمى إليه السيوطي، لاحتمالات كثيرة تصادم الاحتمال الذي ذهب إليه السيوطي، إذ ربما لم يعق عنه جده عند ولادته، أو ربما ذبح ذلك لأي غرض آخر، وثمة شيء آخر: هل كرَّر ذلك فيما بقي من عمره حتى يُستدل بها على الاحتفال بالمولد؟!

 

• الشبهة الرابعة رؤيا منامية رؤيت لإمام من أئمة الكفر، وهو أبو لهب، بعد موته، فقيل له: ما حـالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين باعتاقي لثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبإرضاعها له.

 

هذه الرؤيا لو رُؤيت لأحد من المؤمنين الصالحين لما أُخذ منها حكم شرعي، فكيف وهي لكافرٍ, معاندٍ, لرسول الله وحبيبه - صلى الله عليه وسلم -؟! بجانب أن الكافر لا يثاب على عمل، قال - تعالى -: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً"، وقال: "لئن أشركت ليحبطن عملك"، هذا إذا كان حبه حب تعبد واتباع فكيف إذا كان حبّ حميّة؟!

 

الخلاصة:

• أن الاحتفال بالمولد الشريف بدعة حادثة ليس لها أصل في الدين بأي صورة من صوره، أسبوعية كانت أم سنوية، قرنت بالسماع وبغيره من المحرمات كالاختلاط أم خلت منه.

 

• أن الذين يحتفلون بمولده الشريف - صلى الله عليه وسلم - نحسب أن دافعهم إلى ذلك حبه، ولكن الحب وحده لا يكفي، فلا بد من متابعة السنة وموافقة الشرع، فكم طالبٍ, أمراً لم يصبه وراجِ رجاءً فأخطأه، ومؤمل أملاً لم يدركه.

 

• أن الدين تم وكمُل بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لم يكن في ذلك اليوم ديناً وشرعاً فلن يكون اليوم ديناً أو شرعاً.

 

• أن مجرد الخلاف ليس دليلاً مسوِّغاً للتشبث به مهما كانت درجة ومنزلة قائله، ما لم يكن قائماً على دليل، فكما قيل:

 

  فليس كل خلافٍ, جاء معتبراً  إلا خلافاً له حظٌ من النظر

 

• أن مرجع المسلمين عند الخلاف والنزاع إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، لا إلى قول فلان وعلان.

 

• أن الدين ليس بالرأي والعقل، وإلا لكان باطن الخف أولى بالمسح عليه من ظاهره، كما قال الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه -، ولهذا فإن التحسين والتقبيح العقليين لا قيمة لهما البتة في أمور الشرع، فما تراه أنت حسناً يستقبحه غيرك.

واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهدينا وإياهم سبل الرشاد، ويجنبنا وإياهم البدع وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان وزمان أمر رشد، يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذلّ فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply