بسم الله الرحمن الرحيم
ها قد أهلَّ علينا هلالُ شهر شعبان، شهرُ النفحات الربانية والانطلاقات الإيمانية، شهرٌ يفيض بالخيرات والبركات، تتهيَّأ فيه النفسُ لاستقبال النفحات الكبرى لشهر رمضان، شهرٌ له مكانةٌ عظمى عند رسولنا الحبيب- صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يُكثر فيه من الصوم، ولما سئُل عن ذلك أجاب: (ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم) [أخرجه النسائي وأبو داود وصحَّحه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد].
يا الله.. رسولنا الكريم الذي غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر كان شديدَ الحرص على ألا يفوتَه ذلك الثواب.. شهرٌ يغفل فيه الناس، وكما نعلم فالأعمال الصالحة في وقت الغفلة لها ثوابٌ أكبر منها في أي وقتٍ, آخر، وما أشد غفلة الناس في زماننا هذا!! غفلوا عن كل عملٍ, يقربهم من الآخرة، وتسابَقوا إلى كل عمل يقيدهم بالدنيا!! ما أشد غفلة الناس اليوم عن النفحات الربانية التي تأتي علينا على مرِّ الأعوام والسنين وتفوتنا دون أن ننهل منهاº لأننا غفلنا عنها، بل لم نشعر بهاº حيث كان شغلنا الشاغل هو جمع حطام الدنيا والتنافس فيها.
ذلك شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله.. انتبهوا إخوتي في الله، تُرفع أعمالنا إلى الله في هذا الشهر، وكان حبيبُنا- صلى الله عليه وسلم - يحرص أن يُرفَع عملُه وهو صائمٌ، وعملُه كله صالحٌ، فما بالُ أعمالِنا- والقليل منها هو الصالح- عندما تُرفَع إلى ربنا - عز وجل -.. فكيف يكون حالنا؟! وما بال مَن كانت الدنيا كلَّ همِّه.. كيف حاله عندما يُرفع عمله إلى ربه!! ما بال مَن يكيد لأخيه ويؤذي جارَه ويحسد قريبَه ويمشي بين الناس بالنميمة!! ما بال هذا عندما يُرفع عملُه إلى ربه!! بل ما بال مَن يعصي ربه وما زال مُصِرًّا على المعصية وهو في المعصية يُرفَع عمله إلى مولاه!! أما يستحيي من خالقه عندما يُرفع عملُه في هذا الشهر ولا يتوب، ولا يفكر في عملٍ, صالحٍ, يصلح به ما أفسد طيلة دهره!!
لا للشرك.. لا للشحناء
إن أعمالنا التي قليلها صالح تُرفَع إلى الغفور الرحيم ليلةَ النصف من شعبان، فيغفر اللهُ لكلِّ عبدٍ, إلا لمشركٍ, أو مشاحنٍ,، كما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك، أو مشاحن) [رواه الطبراني في الكبير والأوسط].
ففتِّش عن نفسك أخي الحبيب، هل قلبك خالصٌ لربك؟ فقد تُصاب بنوعٍ, من الشرك وأنت لا تعلم، كما أن الرياء نوعٌ من الشرك ويدخل إلى قلب العبد دون أن يشعر به، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسُئل عنه؟ فقال: الرياء) [رواه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء].
أما النوع الثاني الذي لا يغفر الله له فهو " المشاحن"، وهذا إن دلَّ فإنما يدلٌّ على خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنَين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بُغضًا له لهوى في نفسه، لا لغرضٍ, شرعيٍّ, ومندوحةٍ, دينيةٍ,، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- مرفوعًا: (تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبدٍ, لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا).
فكيف حالك أخي الحبيب مع زوجتك ومع أبنائك ومع والديك وأقاربك؟! وكيف حالك مع جيرانك وأصدقاء العمل؟ بل كيف حالك مع الناس جميعًا؟ هل في قلبك شيء لأحد؟ هل في قلبك غلُّ لأحد؟ هل بينك وبين أخيك خصومة؟ سَل نفسَك، وإن وجدت شيئًا من ذلك فطهِّر قلبك واذهب إلى خصيمك وصالحه حتى وإن كان هو المخطئ، فابدأ أنت، واعفُ حتى يعفوَ الله عنك، فأنت في أشدِّ الحاجة إلى عفوِ ربك ومغفرته.
أين نحن من هؤلاء؟!
لقد كان الصحابة والتابعون يهتمون بهذا الشهر اهتمامًا خاصًّا لِمَا عرفوا من نفحاته وكرماته، فكانوا ينكبٌّون على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه، ويتصدقون من أموالهم، ويتسابقون إلى الخيرات وكأنهم يُهيِّئون قلوبَهم لاستقبال نفحات رمضان الكبرى، حتى إذا دخل عليهم رمضان دخل عليهم وقلوبهم عامرةٌ بالإيمان وألسنتُهم رطبةٌ بذكر الله، وجوارحهم عفيفةٌ عن الحرام طاهرةٌ نقيةٌ فيشعرون بلذَّة القيام وحلاوة الصيام، ولا يملٌّون من الأعمال الصالحةº لأن قلوبهم خالطتها بشاشةُ الإيمان وتغلغَل نور القين في أرواحهم.
فها هو سلمة بن كهيل يقول: كان يقال شهر شعبان شهر القرَّاء، وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن، وقال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزَّرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع.. فأين نحن من هؤلاء؟!
كلمة أخيرة: أختم بها، أحبابي وإخواني في الله: يجب علينا ألا نحرم أنفسَنا من نفحات هذا الشهر، وأن نتعرَّض لنفحات اللهº عسى أن تُصيبنا نفحةٌ فلا نشقى بعدها أبدًا.. كفانا النَّهَم من الدنيا، وهيَّا نُقبل على الآخرة التي هي مثوانا ودرانا، هيَّا نعمِّرها بالقرآن والقيام والصيام وصلة الأرحام والتصدق، هيَّا نُعمرها بالكلمة الطيبة وتطهير قلوبنا من الأمراض الفتَّاكة التي هي أشدٌّ خطرًا من الأمراض الجسدية المنتشرة في يومنا هذا كالسرطان وغيره، فأمراض القلوب تضيِّع دينَ العبد وآخرتَه، فمِن اليوم لا حقدَ ولا غلَ ولا حسَدَ، من اليوم لا غيبةَ ولا نميمةَ ولا غفلةَ عن ذكر الله.. من اليوم نرفع شعار {وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى}.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد