بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
العناصر:
مقدمة، فضل العشر، إشكالان وجوابهما، وظائف المسلم فيها، بماذا نستقبلها؟ ما يحرم على المضحي فيها، دروس تربوية.
مقدمة:
إن من نعم الله -تعالى- علينا أن مواسم الخير يتبع بعضها بعضاً، فبعد أن انقضى موسم رمضان جاء موسم الحج، وموسم العشر من ذي الحجة. فينبغي أن نتعرف على نعم الله علينا بهذه المواسم التي هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات تتكرر علينا كل عام ليتكرر بها علينا فضل الله، ونجدد النشاط على صالح الأعمال.
ففضائل الله على هذه الأمة كثيرة وله المنة والفضل، ومن ذلك: شُكرُ العمل القليل وإحلال البركة فيه:
فعَن ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَثَلُكُم وَمَثَلُ أَهلِ الكِتَابَينِ كَمَثَلِ رَجُلٍ, استَأجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَن يَعمَلُ لِي مِن غُدوَةَ إِلَى نِصفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ,؟ فَعَمِلَت اليَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَن يَعمَلُ لِي مِن نِصفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ العَصرِ عَلَى قِيرَاطٍ,؟ فَعَمِلَت النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَن يَعمَلُ لِي مِن العَصرِ إِلَى أَن تَغِيبَ الشَّمسُ عَلَى قِيرَاطَينِ؟ فَأَنتُم هُم. فَغَضِبَت اليَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَل نَقَصتُكُم مِن حَقِّكُم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَذَلِكَ فَضلِي أُوتِيهِ مَن أَشَاءُ))(1).
فضائل العشر من ذي الحجة:
من فضائل العشر من ذي الحجة:
1. أنّ الله -تعالى- أقسم بها بقوله: {وَلَيَالٍ, عَشرٍ,}[2]، قال الإمام الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه"[3]، وقال ابن كثير -رحمه الله-: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف" [4]، وقال الشوكاني -رحمه الله-: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين"(5).
وهذا دليل على فضلها وعظيم أمرها.
2. وهي الأيام المعلومات التي أُمرنا فيها بذكر الله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ, يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ, عَمِيقٍ, * لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَّعلُومَاتٍ, عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ)(6).
قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: "أيام العشر"(7).
3. وهي العشر المذكورة في قوله -تعالى-: {وَوَاعَدنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتمَمنَاهَا بِعَشرٍ, فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَربَعِينَ لَيلَةً}[8]، والثلاثون شهر ذي القعدة.
4. وهي أيام يتضاعف فيها ثواب العمل، لما ثبت عند البخاري عَن ابنِ عَبَّاسٍ, عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ, أَفضَلَ مِنهَا فِي هَذِهِ)). قَالُوا: وَلَا الجِهَادُ؟ قَالَ: ((وَلَا الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِع بِشَيءٍ,)). وللترمذي: ((مَا مِن أَيَّامٍ, العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبٌّ إِلَى اللَّهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ)). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ)).
قال ابن رجب: "وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره"(9).
ومن أراد أن يستشعر فضل هذه الأيام ويتصور ذلك فليتدبر هذا الحديث:
عن أبي هُرَيرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ, يَعدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: ((لَا أَجِدُهُ)). قَالَ: ((هَل تَستَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَن تَدخُلَ مَسجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفتُرَ، وَتَصُومَ وَلَا تُفطِرَ))؟ قَالَ: وَمَن يَستَطِيعُ ذَلِكَ؟ [10]. ومع ما للجهاد من هذه المكانة يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الطاعة في العشر -التي هي دون الجهاد في غير العشر أفضل منه، أما الجهاد فيها فلا شيء يعدله.
5. وهي أفضل أيام الدنيا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أفضل أيام الدنيا العشر))(11).
6. وفيها يوم عرفة.
7. وفيها أعظم يوم عند الله، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وسُمي بذا لأن معظم أعمال الحج تقع فيه من الوقوف عند المشعر الحرام، ورمي جمرة العقبة، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، ونحر الهدي للمتمتع والقارن.
قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللَّهِ -تبارك وتعالى- يَومُ النَّحرِ ثُمَّ يَومُ القَرِّ(12)))(13).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب -عز وجل- به"[14]، وقال الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"(15).
إشكالان وجوابهما:
الأول:
قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللَّهِ -تبارك وتعالى- يَومُ النَّحرِ ثُمَّ يَومُ القَرِّ))، ألا يتعارض مع الحديث الآخر: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)).
الجواب: لا فإنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام.
الثاني:
أليست ليالي العشر من رمضان أفضل لأن فيها ليلة القدر؟
سئل شيخ الإسلام عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"(16).
وظائف المسلم في العشر:
ندب الحديث إلى العمل الصالح مطلقاً في هذه الأيام. وقد كان سعيد بن جبير -رحمه الله- إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه [17]. ومن الوظائف التي ينبغي العناية بها:
1. الحج، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَم يَرفُث وَلَم يَفسُق رَجَعَ كَيَومِ وَلَدَتهُ أُمٌّهُ))(18).
2. العمرة. فقد شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- العمرة في أشهر الحج مخالفاً بذلك المشركين القائلين: "إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر"! فأعمر عائشة في أشهر الحج، وندب أصحابه إلى التمتع الذي يأتي فيه الإنسان بعمرة في أشهر الحج، وقرن في حجه بينه وبين العمرة، واعتمر أربع مرات كلهنّ في أشهر الحج.
3. الاعتناء بالفرائض إذ لا أحب إلى الله منها، فعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَن عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدِي بِشَيءٍ, أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ الَّتِي يَمشِي بِهَا، وَإِن سَأَلَنِي لَأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِن استَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))(19).
4. ومنها كثرة النوافل للحديث السابق، من تلاوة القرآن، والتنفٌّل بالصلاة، وإدامة الذكر، والصلة، والصدقة، وإعانة المحتاج، وهذا باب لا يُحصى أفراده ولله الحمد.
وفي الإكثار من النافلة فوائد جمة، منها:
- تزكية النفس.
- يُجبر خلل الفريضة بها.
- نيل محبة الله –تعالى-.
5. كثرة الذكر لقول الله -تعالى-: (وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَّعلُومَاتٍ).
قال ابن رجب: "وأما استحباب الإكثار من الذكر فيها في أيام العشر - فقد دلَّ عليه قول الله عز وجل: (وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَّعلُومَاتٍ,)، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء"(20).
وقال النووي -رحمه الله-: "واعلم أنه يُستحبٌّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ويُستحب من ذلك في يوم عرفة أكثر من باقي العشر"(21).
ومنه التكبير والتهليل والتحميد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا مِن أَيَّامٍ, أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ وَلَا أَحَبٌّ إِلَيهِ مِن العَمَلِ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ))(22).
قال البخاري -رحمه الله-: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناسُ بتكبيرهما"(23).
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"(24).
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير"(25).
وينبغي الجهرُ به إحياءً للسنة، وتذكيراً للغافل.
والتكبير فيها قسمان:
مطلق، ويكون في العشر كلها.
مقيد بدبر الصلاة المكتوبة والنافلة، وأصحٌّ ما ورد في وصفِ وقت التكبير المقيّد ما ورَد مِن قولِ عليّ وابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّه مِن صُبح يومِ عرفة إلى العصرِ من آخر أيّام التشريق [26]. وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر.
وأصحٌّ ما ورد في صيغِ التكبير ما أخرجَه عبد الرزاق بسندٍ, صحيح عن سلمان -رضي الله عنه- قال: (كبّروا الله: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) [27]، وصحّ عن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما- صيغة: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)(28).
6. صيام التسع، فمن غُلب أخذ منها ما يُطيقه، فعن هُنَيدَةَ بنِ خَالِدٍ, عَن امرَأَتِهِ قَالَت: "حَدَّثَتنِي بَعضُ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَصُومُ يَومَ عَاشُورَاءَ، وَتِسعًا مِن ذِي الحِجَّةِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ, مِن الشَّهرِ "(29).
ولا يُشوِّشُ على هذا قول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَائِمًا فِي العَشرِ قَطٌّ"[30]. قال ابنُ القيّم -رحمه الله- بعد أن أوردَ هذه المسألةَ: "والمثبِت مقدَّمٌ على النّافي إن صحّ"[31]، ويقول النووي مزيلاً هذا الإشكال: "قول عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائماً في العشر قط. وفي رواية: لم يصم العشر. قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً، لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله...فيتأول قولها: "لم يصم العشر "أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر.ويدل على هذا التأويل حديث هُنَيدَة بنِ خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كلِّ شهر"(32).
وربما صامها النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ترك صيامها خشية أن تفرض كما ترك الاجتماع في صلاة الليل في رمضان لذات العلة، فأخبرت كل واحدة بما رأته من حاله -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا غُلب الإنسان فلا أقل من صوم يوم عرفة لغير الحاج، لقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسـنة التي بعده))(33).
7. قيام ليلها، فقد استحبه الشافعي وغيره، وقال سعيد بن جبير: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر"(34).
8. ومن آكد الأمور في هذه العشر البعد الشديد عن طريق المعصية وسبيل السيئة.
فقد قال بعض أهل العلم بمضاعفة السيئة في الأشهر الحرم، وهي رجب، وذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، قال الله -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشٌّهُورِ عِندَ اللّهِ اثنَا عَشَرَ شَهرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم)(35).
9. دعاء يوم عرفة:
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيٌّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))(36).
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره،... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"(37).
10. الأضحية.
والأضحية من خير القربات في يوم العيد، واختلف العلماء في حكمها، والصحيح أنها سنة مؤكدة للقادر، والله أعلم.
11. صلاة العيد، وهي واجبة في الراجح من قولي العلماء.
بماذا نستقبلها؟
بأمرين:
الأول: ذكر علماؤنا -رحمهم الله- أن مواسم الخير تُستقبل بالتوبة والإنابة إلى الله ولعلَّ ذلك لأن يكون أدعى لتوفيقِ الله للعبد فيها.
الثاني: العزم الأكيد على استغلالها بما يحبه الله ويرضاه، ومن صدق اللهَ صدقه اللهُ –تعالى-.
ما يحرم فعله فيها لمن أرد الأضحية.
عَن أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِذَا دَخَلَت العَشرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَن يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِن شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيئًا))[38]. وله: ((فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمنَّ ظفراً)).
وتحته مسائل:
الأولى: الحديث يدل على تحريم أخذ شيء من الأشعار والأبشار والأظفار لأن الأصل أن النهي للتحريم.
الثانية: في الحكمة من ذلك.
قال النووي -رحمه الله-: "قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم، قال أصحابنا: هذا غلط لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم"(39).
الثالثة: من نوى الأضحية قبل العيد بأيام أمسك عن الحلق وإن لم يكن أمسك من قبل.
الرابعة: لا فدية على من تعمد أخذ شيء من ذلك، وتلزمه التوبة للوقوع في النهي.
الخامسة: من احتاج إلى الأخذ أخذ، كمن كُسر بعض ظفره وتأذى بباقيه، أو تدلى جلده.
السادسة: المُضحَّى عنهم لا يتناولهم هذا الحديث، فلا بأس أن تأخذ الزوجة والأولاد من أظفارهم.
السابعة: إذا وكّل شخص شخصاً ليضحي عنه فالمخاطب بالحديث الموكِّل لا الموكَّل، فالوكالة لا أثر لها في تحريم أخذ المضحي من شعره وبشره.
بعض الدروس التربوية المستفادة من أحاديث فضل الأيام العشر(40):
(1) التنبيه النبوي التربوي إلى أن العمل الصالح في هذه الأيام العشرة من شهر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله -تعالى- منه في غيرها، وفي ذلك تربيةٌ للنفس الإنسانية المُسلمة على الاهتمام بهذه المناسبة السنوية التي لا تحصل في العام إلا مرةً واحدةً، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القولية والفعلية، لما فيها من فرص التقرب إلى الله -تعالى-، وتزويد النفس البشرية بالغذاء الروحي الذي يرفع من الجوانب المعنوية عند الإنسان، فتُعينه بذلك على مواجهة الحياة.
(2) التوجيه النبوي التربوي إلى أن في حياة الإنسان المسلم بعض المناسبات التي عليه أن يتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً يمكن تحقيقه بتُغيير نمط حياته، وكسر روتينها المعتاد بما صلُح من القول والعمل، ومن هذه المناسبات السنوية هذه الأيام المُباركات التي تتنوع فيها أنماط العبادة لتشمل مختلف الجوانب والأبعاد الإنسانية.
(3) استمرارية تواصل الإنسان المسلم طيلة حياته مع خالقه العظيم من خلال أنواع العبادة المختلفة لتحقيق معناها الحق من خلال الطاعة الصادقة، والامتثال الخالص. وفي هذا تأكيدٌ على أن حياة الإنسان المسلم كلها طاعةٌ لله -تعالى- من المهد إلى اللحد، وفي هذا الشأن يقول أحد الباحثين: " فالعبادة بمعناها النفسي التربوي في التربية الإسلامية فترة رجوعٍ, سريعةٍ, من حينٍ, لآخر إلى المصدر الروحي ليظل الفرد الإنساني على صلةٍ, دائمةٍ, بخالقه، فهي خلوةٌ نفسيةٌ قصيرةٌ يتفقد فيها المرء نفسيته صفاءً وسلامةً"(عبد الحميد الهاشمي، 1405هـ، ص 466).
(4) شمولية العمل الصالح المتقرب به إلى الله -عز وجل- لكل ما يُقصد به وجه الله -تعالى- وابتغاء مرضاته، سواءً أكان ذلك قولاً أم فعلاً، وهو ما يُشير إليه قوله -صلى الله عليه وسلم- "العمل الصالح ففي التعريف بأل الجنسية عموميةٌ وعدم تخصيص وفي هذا تربيةٌ على الإكثار من الأعمال الصالحة، كما أن فيه بُعداً تربوياً لا ينبغي إغفاله يتمثل في أن تعدد العبادات وتنوعها يُغذي جميع جوانب النمو الرئيسة (الجسمية والروحية والعقلية) وما يتبعها من جوانب أُخرى عند الإنسان المسلم.
(5) حرص التربية الإسلامية على فتح باب التنافس في الطاعات حتى يُقبِل كل إنسان على ما يستطيعه من عمل الخير كالعبادات المفروضة، والطاعات المطلوبة من حجٍ, وعمرةٍ,، وصلاةٍ, وصيامٍ,، وصدقةٍ, وذكرٍ, ودعاءٍ,... الخ. وفي ذلك توجيهٌ تربويُ لإطلاق استعدادات الفرد وطاقاته لبلوغ غاية ما يصبو إليه من الفوائد والمنافع والغايات الأُخروية المُتمثلة في الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
(6) تكريم الإسلام وتعظيمه لأحد أركان الإسلام العظيمة وهو الحج كنسكٍ, عظيمٍ, ذي مضامين تربوية عديدة تبرزُ في تجرد الفرد المسلم من أهوائه ودوافعه المادية، وتخلصه من المظاهر الدنيوية، وإشباعه للجانب الروحي الذي يتطلب تهيئةً عامةً، وإعدادًا خاصاً تنهض به الأعمال الصالحات التي أشاد بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث مختلفة، لما فيها من حُسن التمهيد لاستقبال أعمال الحج، والدافع القوي لأدائها بشكلٍ, يتلاءم ومنـزلة الحج التي -لا شك أنها منـزلةٌ ساميةٌ عظيمة القدر.
(7) تربية الإنسان المسلم على أهمية إحياء مختلف السُنن والشعائر الدينية المختلفة طيلة حياته لاسيما وأن باب العمل الصالح مفتوحٌ لا يُغلق منذ أن يولد الإنسان وحتى يموت انطلاقاً من توجيهات النبوة التي حثت على ذلك ودعت إليه.
وليس هذا فحسب فهذه الأيام العظيمة زاخرةٌ بكثيرٍ, من الدروس والمضامين التربوية، التي علينا جميعاً أن نُفيد منها في كل جزئيةٍ, من جزئيات حياتنا، وأن نستلهمها في كل شأن من شؤونها.
هذا وليس لي مما سبق إلا الجمع والتهذيب، والله أسأل أن ينفع بها من قرأها أو نشرها أو أعملها أو سعى في شيء منها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
(1) صحيح البخاري.
(2) الفجر (2).
(3) جامع البيان (30/ 169).
(4) تفسير القرآن العظيم (4/539).
(5) فتح القدير (5/613).
(6) الحج (27-28).
(7) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، وقد وصله عبد بن حميد، وابن مردويه كما في الفتح لابن حجر (2/582).
(8) الأعراف (142).
(9) لطائف المعارف (ص459).
(10) البخاري ومسلم.
(11) البزار وأبو يعلى، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (50).
(12) اليوم الحادي عشر، وسُمي بذا لقرار الحجاج فيه وعدم نفرهم.
(13) سنن أبي داود، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/148).
(14) التبيان في أقسام القرآن (ص 18).
(15) فتح الباري (2/460).
(16) فتاوى (25/287).
(17) أخرجه الدارمي في سننه، والبيهقي في الشعب.
(18) البخاري ومسلم.
(19) البخاري.
(20) اللطائف، ص (289).
(21) الأذكار، ص (389).
(22) المسند، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر في تخريج المسند (7/224).
(23) صحيح البخاري (1/329)، وصححه الألباني في الإرواء برقم (651).
(24) أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (ص 119).
(25) أخرجه أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/9).
(26) أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2209، 2210)، وأخرجهما أيضا ابن أبي شيبة في المصنف (1/488، 489).
(27) وصححه ابن حجر في الفتح (2/462).
(28) أثر عمر -رضي الله عنه- أخرجه ابن المنذر في الأوسط (2207). وأما أثر ابن مسعود -رضي الله عنه- فأخرجه ابن أبي شيبة (1/488، 490)، وابن المنذر في الأوسط (2208)، والطبراني في الكبير (9/307)، وحسن إسناده الزيلعي في نصب الراية (2/224).
(29) أحمد والنسائي، وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (2372).
(30) مسلم.
(31) زاد المعاد (2/66).
(32) شرح مسلم (8/71-72).
(33) مسلم.
(34) انظر اللطائف، ص (289).
(35) التوبة (36).
(36) الترمذي، وقوَّاه الألباني في الصحيحة (1503).
(37) التمهيد (6/41).
(38) صحيح مسلم.
(39) شرح مسلم (13/139).
(40) وجدتها لأحد الفضلاء في إحدى المواقع.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد