بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
المختار الإسلامي:
إلى مَن اشتاقت قلوبهم لخطوات على أرض النبوة ولم يستطيعوا، نذكِّرهُم وإن لم يُحُجٌّوا بواجباتِ مَن لم يَحُجّ:
جلس صاحبي ينظر إلى مشاهد الحجيج في بدايات أعمال الحج وقد تخلَّصوا من أثواب الدنيا، والوفود تَقدُمُ من كلِّ بقاع الأرض تلبِّي نداءَ الله -تعالى-: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"(27)(الحج).
وعندما استمع صاحبي إلى هذه الآية لم يستطع أن يتماسك فانهمرت الدموع من عينيه، وأخذ يردِّدُ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
فاقتربت منه مشفقاً، وفي نفسي مثل ما في نفسه من الشوق إلى الله، والرغبة في تلبية ندائه -سبحانه وتعالى-.
نظر إليَّ صاحبي وهو يمسح دموعه، وقال: هؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا، ودعاهم إلى بيته.
فقلت له: أسأل الله لهم القبول. هل تحب أن تشاركهم؟
عادت الدموع تنهمر كأفضل إجابة على سؤالي، فقلت له وأنا أمسح بعضاً من دمعٍ, حاولتُ حَبسَهُ: وهل تظنٌّ أننا لا يمكننا مشاركتهم ونحن في ديارنا؟!
نظر إليَّ متسائلاً، متلهِّفاً، فقلت له مؤكِّداً: نعم إنَّ الحاجَّ يؤدي ما عليه من واجبات هناك حيث المناسك، أمَّا مَن لم يَحُج فإن عليه واجبات أيضاً.
قال لي صاحبي متعجِّباً: واجبات من لم يحج؟!
قلت له: نعم، إن الحجَّ في البداية مشروط بالاستطاعة قال -تعالى-: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين(آل عمران 97).
وحدود الاستطاعة مفصَّلة في كتب الفقه، فمن لم يستطع الحج لأيِّ سبب وبقيَ في بلده، لا بُدَّ أن يعرفَ شيئاً مهمّاً: على مَن لم يستطع أن يشارك الحجيج نفحات المكان، فلا يفوته أن يشاركهم نفحات الزمان.
ابتسم صاحبي لأول مرة وقال لي:
إن النفحات قد جعلتك صاحب إشارات.
شاركته ابتسامته وقلت له: اسمع معي ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أيام الحج: "مَا مِن أَيَّامٍ, العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبٌّ إلى اللَّهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! قَالَ: "وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ,"(رواه الترمذي).
وهذه الأيام العشرة الأُوَلُ من ذي الحجة، والتي تنتهي باليوم العاشر حيث عيدالأضحى تتم فيها معظم مناسك الحج، فإذا عرفت واجباتك فيها وأديتها فقد شاركت الحجيج فوزهم بهذه الأيام العشرة.
شعرت أني أشعلتُ فتيلَ الاهتمام في نفس صاحبي عندما سألني بلهفة: أخبرني أرجوك بواجبات مَن لم يحج؟
قلت: هناك خمسة واجبات أساسية على مَن لم يحج ليربح العشرة الأُوَلُ من ذي الحجة مع الحجيج وهي:
أولاً: الفهم والشوق والنية:
أن تفهم أن مناسك الحج هي كمال الامتثال لأوامر الله - تعالى -، وأن ترجمة (لبيك اللهم لبيك) هي استجابة العقل والنفس بالكامل لنداء الملك -سبحانه وتعالى- ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حَجِّه عند التلبية: "لبيك بحجَّة حَقّاً، تَعَبٌّداً وَرِقّاً"(أخرجه البزار والدارقطني في العلل من حديث أنس).
فإذا فهمت ذلك المعنى لعبادة الحج حيث خضعت النفس لربها، وخضع العقل لأوامره عرفتَ ساعتها أن البيت هو بيت المَلِكِ، وأن المتوجهين إلى البيت متوجهون للمثول بين يدي الملك، والمقصد هو الله، فإن الرَّحلَ يستقر على بابه.
عندها فإن الشوق المشتعل يزداد اشتعالاً، والرغبة في البيت تتصفَّحه العيون، والأركان تتلمسها الأيادي، والحجر تقبِّله الشفاه ليس رغبة في الأماكن ذاتها، ولكنها رغبة في رضا الملك الذي أضيفت له المناسك، فينطلق اللسان شوقاً لِمَن مَلَكَ: (لبيك اللهم لبيك).
لبيكَ إنَّ الحمدَ لكَ *** والمُلكَ لا شريكَ لك
ما خَابَ عَبدٌ أَمَّلَك *** أَنتَ لَهُ حيثُ سَلَك
لولاكَ يا رَبٌّ هَلَك *** كلٌّ نَبِيِّ ومَلَك
فإذا اشتعل الشوق تحول إلى عزم ورغبة، ولكن تعوقه عدم الاستطاعة، فهنا لا بُدَّ من تجديد النية، والاعتذار إلى الله، وتسجيل العهد على النفس إنه: إن كان قد أَخَّرَنِي عجزي هذا العام فإني من أوائل الوفود في عام قابل إن شاء الله.
ومن عظمة العلاقة مع الله في ديننا، أنه إذا رأى -سبحانه وتعالى- منك هذا الشوق وذاك العزم وتلك النية فأَبشِر فقد كتب لك أجرَ الحجيج.
عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجَعَ مِن غَزوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: "إِنَّ بِالمَدِينَةِ أَقوَاماً مَا سِرتُم مَسِيراً وَلا قَطَعتُم وَادِياً إِلا كَانُوا مَعَكُم". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَهُم بِالمَدِينَةِ؟! قَالَ: "وَهُم بِالمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ العُذرُ"(رواه البخاري).
يا سائرينَ إلى البيتِ العتيقِ لَقَد *** سِرتُم جُسُوماً وسِرنَا نَحنُ أرواحاً
إنَّا أَقَمنَا عَلَى عُذرٍ, وَقَد رَحَلُوا *** ومَن أَقَامَ على عُذرٍ, كَمَن رَاحَا
وللواجبات بقية إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد