الحج وأعمال عشر ذي الحجة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد...

فيا أيها المؤمنون اتقوا الله وقوموا بما فرض الله عليكم من حج بيته الحرام فإن الحج ركن من أركان الإسلام ومبنى من مبانيه العظام ففي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان))(1) فرضه الله عليكم يا عباد الله مرة في العمر ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم))(2) ففريضة الحج أيها المؤمنون ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين قاطبة إجماعا قطعياً، أيها المؤمنون إن الله -تعالى- أوجب الحج إلى بيته الحرام على كل مسلم عاقلٍ, بالغٍ, حرٍ, مستطيعٍ, بماله وبدنه، فمن لم يكن مستطيعاً بماله فلا حج عليه لقول الله -جل وعلا-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجٌّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً)(3) ومن كان أيها المؤمنون عاجزاً عن الحج بنفسه مستطيعاً بماله فإن كان عجزُه دائماً مستمراً لا يرجى زواله كالمريض مرضاً لا يرجى الشفاء منه أو الكبير الذي لا يستطيع الحج بنفسه فلينوّب من يحج عنه فريضة الحج فعن ابن عباس -رضي الله عنه-: ((أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم.))(4) فاتقوا الله عباد الله وقوموا بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الدين إذا تمت شروط وجوبها.

أيها المسلمون بادروا إلى حج بيت الله قبل أن تعرض لكم العوارض وتمنعكم الموانع فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له))(5)، وقد غلظ عمر في تأخير الحج بلا عذر بعد تمام شروطه فقال فيما رواه سعيد ابن منصور في سننه بسند صحيح قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة أي سعة من المال ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية ماهم بمسلمين ماهم بمسلمين". وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً". فليت شعري كيف تطيب نفس رجل يؤمن بالله واليوم الآخر يسمع هذه النصوص وهذا الوعيد في حق من ترك الحج مع استطاعته عليه ثم لا يبادر إلى ما افترضه الله عليه.

أيها المؤمنون إن حج بيت الله الحرام من أعظم القربات وأعظم الطاعات وقد ورد فيه فضائل كثيرة تدل على عظيم مكانته وكبير فضله فمن ذلك أن الحج سبب لتكفير الذنوب والسيئات والخطايا فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))(6) متفق عليه، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة إسلام أبيه لما اشترط أن يغفر له فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله))(7) رواه مسلم.

ومن فضائله أيها المؤمنون أنه سبب لدخول الجنة فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))(8) متفق عليه، ومن فضائله يا عباد الله أن الله -تعال- يدنو من أهل الموقف يوم عرفة ويباهي بهم الملائكة فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء؟))(9) رواه مسلم. قال ابن القيم -رحمه الله- في وصف مافي ذلك اليوم من الفضائل:

ويدنو به الجبـار جل جلاله يبا *** هي بهم أملاكـه فهو أكرم

يقول عـبادي قـد أتوني محبة *** وإني بهم برٌ أجـود وأكرم

فأشـهدكم أني غـفرت ذنوبهم *** وأعطيتهم ما أمـلوه وأنعم

فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفر الله الذنوب ويرحم

فلا تفتكم عباد الله هذه الفضائل والمواهب استبقوا الخيرات وسارعوا إلى المبرات وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أن انقطاع السفر عن قريب بل الأمر أعجل من ذلك.

فلا ترج فعل الخير يوماً إلى *** غدٍ, لعل غدا ً يأتي وأنت فقيد

أيها المؤمنون يا من عزمتم على حج بيت الله الحرام إليكم أموراً مهمة لها أثر بالغ في تحصيل الفضائل المترتبة على حج بيت الله –تعالى-.

أولها: إخلاص العمل لله -تعالى- فإن الحج خاصة الحنفية وشعاركم فيه لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ماكان خالصاً وابتغي به وجهه))(10) رواه أبو داود والنسائي بسند جيد.

ثانيها: الحرص على متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم الظاهرة والباطنة وقد حثنا -صلى الله عليه وسلم- على متابعته والأخذ عنه فقال في حجة الوداع: ((خذوا عني مناسككم))(11).

ثالثها: الحرص على تعلم أحكام المناسك قبل الدخول فيها حتى تعبدوا الله -تعالى- على بصيرة وهدى فتعلموا من أحكام المناسك ما يمكنكم من فعلها على الوجه الصحيح وقد يسر الله -سبحانه وتعالى- سبل تحصيل ذلك فالكتب والدروس والأشرطة التي تعتني بذلك كثيرة مشهورة فاحرصوا على مطالعتها ودراستها وإذا أشكل عليكم شيئ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون.

رابعها: تخيروا لسفركم صحبة طيبة تعينكم على الخير وتدلكم عليه فإن الصاحب ساحب وقد قال الأول:

عن المرء لا تسأل وسل عن  قرينه فكل قرين بالمقارن يهتدي.

خامسها: تجنبوا في حجكم الرفث والفسوق والجدال كما أمركم الله -تعال- بذلك: (الحَجٌّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ)(12) والرفث الذي نهى الله عنه من فرض الحج -أي من تلبس بالحج- الجماع والكلام فيه ودواعيه والفحش في القول وأما الفسوق فهو المعاصي عموماً وأما الجدال فهو المماراة والخصام فإن هذه الأمور مما ينقص الاجر ويبيد عظيم الفضل.

سادسها: وطنوا أنفسكم على حصول المشاق وأن يحتسب ذلك عند الله -تعالى- فإن الحج جهاد لا قتال فيه كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-(13).

 

الخطبة الثانية:

أما بعد...

فيا أيها المؤمنون إنكم تستقبلون بعد أيام قلائل موسماً كريماً من مواسم الخيرات تستقبلون أيام عشر ذي الحجة المبارك الذي جعله الله محلاً لكثير من المواهب والنفحات حتى غدا أفضل مواسم الخيرات فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء))(14) رواه البخاري وغيره. فهذه الأيام العشرة أفضل أيام السنة وقد فضلها كثير من العلماء على أيام عشر رمضان الأخير وأما لياليها فهي من أفضل الليالي ويكفيها فخراً وشرفاً وفضلاً إقسام الله -تعالى- بها حيث قال: (وَالفَجرِ (1) وَلَيَالٍ, عَشرٍ,)(15) وقد حثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العمل الصالح بأنواعه وصنوفه في هذه الأيام فأكثروا عباد الله في الأعمال الصالحة من هذه الأيام واغتنموها بالأعمال الصالحة بما يعود عليكم بالأجر والمثوبة يوم القيامة فبادروا فيها بالأعمال الصالحة مادام في العمر مهلة وفي الوقت متسع.

أيها المؤمنون إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه - تعالى -في هذه الأيام الإكثار من ذكره -جل وعلا- قال الله -تعالى-: (وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَعلُومَاتٍ,)(16)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الأيام المعلومات أيام العشر" وهو قول جماعة من المفسرين، وقد روى ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد))(17) رواه أحمد بسند جيد. فأكثروا أيها الأحباب من ذكر الله -تعالى- وقراءة القرآن وقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد في كل أوقات هذه العشر وفي جميع الأماكن فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهم- أنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما(18)، واعلموا أن الذكر في هذه الأيام أفضل الأعمال بل هو أفضل من الجهاد غير المتعين ومن الأعمال الصالحة المتأكدة في هذه الأيام الصيام خاصةً صيام يوم عرفة فقد روى مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده))(19) ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام الاستعداد للأضحية فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: ((من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي))(20) وفي الحديث الآخر ((إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً))(21) رواه مسلم، وهذا الحكم يخص المضحي نفسه دون أهل بيته من الأولاد والنساء فاحرصوا أيها المسلمون على مواسم الخير فإنها سريعة الانقضاء:

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي  ويصبح ذو الأعمال فرحاناً جاذلاً

وأكثروا فيها من الأعمال الصالحة وتعرضوا لنفحات الله ومواهبه فإن عجز أحدكم عن ذلك فلا أقل من أن يكف شره وينتهي عن المعاصي فإن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل أعمال البر فذكر له -صلى الله عليه وسلم- أعمالاً ثم قال الرجل: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك))(22) متفق عليه.

واعلموا أيها الإخوان أن هذه الأيام هي من أفضل الأيام فالحسنات فيها مضاعفة والسيئات مغلظة معظمة فسارعوا إلى مغفرة من ربكم من ربكم ورحمة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)             أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم 8 وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 16.

(2)             أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1337.

(3)             آل عمران: 97.

(4)             أخرجه البخاري في كتاب الحج برقم 1513.

(5)             أخرجه أحمد برقم 2864 وإسناده جيد.

(6)             أخرجه البخاري في كتاب الحج برقم 1521 وأخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1350.

(7)             أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 121.

(8)             أخرجه البخاري في كتاب الحج برقم 1773 وأخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1349.

(9)             أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1348.

(10)        أخرجه النسائي في كتاب الجهاد برقم 3140.

(11)        أخرجه مسلم بلفظ: (لتأخذوا مناسككم) في كتاب الحج من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- برقم 1297. وأخرجه أحمد برقم 14010.

(12)        البقرة: 197.

(13)        أخرجه ابن ماجه في كتاب المناسك من حديث عائشة -رضي الله عنها- برقم 2901 وأخرجه أحمد برقم 24794.

(14)        أخرجه البخاري في كتاب الجمعة من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- برقم 969، وأخرجه الترمذي في كتاب الصوم برقم 757 واللفظ للترمذي.

(15)        الفجر: 1-2.

(16)        الحج: 28.

(17)        أخرجه أحمد برقم 5423 وسنده جيد.

(18)        أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب فضل العمل في أيام التشريق.

(19)        أخرجه مسلم في كتاب الصيام من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- برقم 1162.

(20)        أخرجه مسلم في كتاب الحج من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- برقم 1977 وأخرجه النسائي في كتاب الضحايا برقم 2791.

(21)        أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم 1348.

(22)       أخرجه البخاري في كتاب العتق من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- برقم 2518. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم 84 واللفظ لمسلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply