أبواب الأجر في الأيام العشر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

فالناس في الدنيا كالتجار في السوق، فماداموا في هذه الدنيا فالسوق قائمة، وميدان المتاجرة مفتوح، والثمن موجود، والسلعة غالية، وأعظم الناس عقلاً من استغل وجوده في هذا السوق قبل أن ينفض وينتهي.

والمتاجرة في السوق مع من؟

إنها مع الغني الكريم، مع الواسع العليم، الذي لا تنقص خزائنه، ولا ينفد ما عنده.

مع الذي المتاجرة معه لا تبور [لا تخسر أبداً]((إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ)).

 

أعظم التجارة كسباً التجارة مع الله:

كم هي مكاسب المتاجرين في الدنيا؟ ما هي نسبة الربح إلى رأس المال؟

نسبٌ ضئيلة جداً ولكن في المتاجرة مع الله الأضعاف المضاعفة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف تعالى لمن يشاء.

وسيأتي يوم ينفض فيه السوق، ولا ينفع الندم على انقضاءه، عندها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، وربما قبل ذلك تأتي اللحظات التي يسحب العبد فيها من السوق بغض النظر عن كونه تاجر أم لم يتاجر، استفاد أم لم يستفد، تأتي بعض الناس منيتة وهو في غفلته، كان ينظر إلى المتاجرين، ويتأمل أحوال المتنافسين والمتسابقين إلى سلعة رب العالمين.

وقد خدعه عدوه فمدَّ له بساط الرجاء مرة، وسوَّف وخدع نفسه مرة.

فيا حسرته وهو يؤخذ منه وتنزع روحه.

يا الله.. يخرج من السوق لم يتاجر بصلاة، ولا بذكر ومناجاة، ولا بصدقة وزكاة.

يا الله.. يخرج من السوق خالي اليدين من الحسنات، بعيداً عن القربات، مضيعاً للفرائض والواجبات.

يا الله.. أحقاً جاء الموت.

يا الله.. أحقاً فات الفوت.

يا الله.. أحقاً جاءت النهاية.

يا الله.. أحقاً بلغت الغاية.

فعندها رب ارجعون - رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، فما أشقاه وأبعده، وجوابه((كلا أنها كلمة هو قائلها ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون)).

ألم يبتعد عن القرآن؟  ألم يعرض عن كلام الرحمن؟

ولو كان من أهله لقرأ وفهم وتدبر وعلم ((وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقنَاكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُم المَوتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَنِي إِلَى أَجَلٍ, قَرِيبٍ, فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِن الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)).

ويوم تجيء الزلزلة، يوم النشور وبعثرة ما في القبور ((يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي))، هل أتاكم نبأ وقوفه ذليلاً حيراناً منكس الرأس مهاناً؟! (( وَلَو تَرَى إِذِ المُجرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِم عِندَ رَبِّهِم رَبَّنَا أَبصَرنَا وَسَمِعنَا فَارجِعنَا نَعمَل صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ))(السجدة:12).

ولكن هيهات.. هيهات.

ستندم أن رحــــلت بغير زاد            وتشقى إذ يناديك المنادي

فما لك ليس يعمل فيك وعظ           ولا زجر كأنك من جمـــــــادِ

فتب عمــــا جنيت وأنت حي           وكن متيقظاً قبل الرقـــــــاد

أترضى أن تكون رفيــــق قوم           لهم زاد وأنت بغيـــــــــر زاد

ما أتعس من لقي الله مفلساً من الحسنات ((وَهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمَل صَالِحاً غَيرَ الَّذِي كُنَّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ,))(فاطر:37).

إنها النهاية الأليمة، والجواب المقذع لمن عاشوا حياة الغفلة واللهو والعبث.

لكل من لم يحسب حساباً للقاء الله -تعالى-، لكل من أصم أذنه عن وعظ الواعظين، ونصيحة الناصحين، لكل من لم يعتبر بالعبر، وغرته الأماني، وغره بالله الغرور.

فاعتبروا يا أولي الألباب، واعدوا للقاء رب الأرباب، فليس للعمر ثمرة أعظم من العمل الصالح، فيا الله ما أسعد العاملين برضوان أرحم الراحمين يوم يناديهم المنادي: ((أن تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ))[الأعراف: من الآية43] ،يوم يقال: ((كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسلَفتُم فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ))(الحاقة:24).

يوم يسعدهم الرحمن بنعيم الجنات، ويسمعون: ((إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُم جَزَاءً وَكَانَ سَعيُكُم مَشكُوراً))(الإنسان:22).

فتنطلق الألسنة بحمد الرحمن المنان بهذا الرضوان ((وَقَالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعدَهُ وَأَورَثَنَا الأَرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ نَشَاءُ فَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ))[الزمر:74]، ((وَقَالُوا الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضلِهِ لا يَمَسٌّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسٌّنَا فِيهَا لُغُوبٌ))[فاطر:35] إنها الخيرات التي سارعوا إليها، والطاعات التي شمروا إليها، والقربات التي سعوا إليها، ثقلت الموازين فكان العبد من المفلحين.

فما الذي يقعد بنا؟ وما الذي يؤخرنا؟

الحياة كلها مجال للعمل الصالح ((وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ))[الحجر:99]، فلا انقطاع لعمل المؤمن إلا بلقاء ربه وخروج روحه من جسده.

ومن رحمة ربنا أن جعل لعباده مواسم تضاعف فيها الحسنات، ويستدرك العبد بها ما فات، لها مزيه ليست لغيرها من الأوقات، ويتجدد نشاط العبد فيسارع في الخيرات، ومن ذلك ما نحن بانتظاره من موسم عظيم، وأيام مباركة كريمة هي أيام عشر ذي الحجة، هذه الأيام التي هي أفضل أيام خلقها الله على الإطلاق، أفضل أيام العام، ودلائل فضلها كثيرة منها:

1-              إن الله أقسم بها ولا يقسم ربنا إلا بعظيم من المخلوقات أو الأوقات: ((وَالفَجرِ* وَلَيَالٍ, عَشرٍ,))، وهي عشر ذي الحجة كما قال أهل التفسير.

2-              صح فيها حديث ابن عباس عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-:(مَا مِن أَيَّامٍ, العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبٌّ إِلَى اللَّهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ -يَعنِي أَيَّامَ العَشرِ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيء).

وفي حديث أخر: (ما من عمل أزكي عند الله -عز وجل- ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى!! قيل: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله .. إلخ.

3-              كذلك يجتمع فيها من أمهات العبادة ما لا يجتمع في غيرها كالحج، والعمرة، والصيام، والصدقة، والصلاة.

أيها الأخوة: أن أدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله -تعالى- على العبد، فيجب علينا استشعار هذه النعمة، واغتنام الفرصة، فنخصها بمزيد عناية، وتجاهد نفسنا بالطاعة.

وقد كان هذا هو حال السلف.

فقد روى الدارمي أن سعيد بن جبير -وهو راوي حديث ابن عباس المتقدم- كان إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم فيها.

مضى امسك الماضي عليك معدلاً                وأعقبه يوم عليك جديـــــد

فإن كنت بالأمس اقترفت إســــــاءة                فبادر بإحسان وأنت حميد

ولا تبق فعل الصالحات إلى غـــــــد                لعل غداً يأتي وأنت فقيــــد

أيها الأخوة: على سبيل التذكير هذه بعض الأعمال الصالحة التي يشرع التقرب بها إلى الله -تعالى-، وليعلم أنه من الفطنة والفقه أن يختار المسلم من الأعمال أحبها إلى الله -تعالى- فيتقرب بها، فالعمل في العشر محبوب أياً كان نوعه،

فكيف إذا اجتمع مع كونه محبوباً للزمان كونه محبوباً لذاته وأصله فذلك خير على خير.

فأول أمر وأهمه أن نعلم أن لفعل الصالحات:

-       لابد من ترك السيئات وذلك بالتوبة والإقلاع، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

-       غير برنامجك -غير مجالسك- السهرات أتركها، وآلة معصية أبعدها.

-       رفقه سوء تخل عنهم، ومجلس تضييع وقت أبتعد عنه.

-       طاعة تفرط فيها أفعلها، وألزم نفسك بها.

ومن ذلك أداء فرائض الله افترضها ففي الحديث: (وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).

-       التوحيد الإخلاص لله -تعالى- المحافظة على الصلاة وأداءها على وقتها مما يحبه الله -تعالى-.

-       الحج والعمرة.

-       بر بوالديك يا عبد الله، فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أحب العمل إلى الله -تعالى- فقال: (الصلاة على وقتها قيل: ثم أي؟ قال بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال : الجهاد في سبيل الله).

ومن برهما صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، تذكر أعمامك وعماتك، وأخوالك وخالاتك وأبناءهم، تذكر قراباتك فصلهم، فالله يحب ذلك ففي الحديث: (إنه سئل عن أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: الإيمان  بالله!! قلت: ثم مه يا رسول الله؟ قال: صلة الرحم. قلت: ثم مه؟ قال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر).

-       القرآن التجارة التي لن تبور اختمه في هذه العشر، وهو عمل مبارك محبوب عند الله، ففي حديث عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ قوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِن حَكِيمٍ, حَمِيدٍ,)) فقال: وأنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أحب إليه من شيء خرج منه -يعني القرآن-).

مع القراءة تدبر ما تقرأ، وحرك به قلبك، فإن لين القلب صفة يحبها الله، والقرآن يلين القلوب ففي الحديث: (أن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).

ومن آثار هذا اللين يكون التأثر والبكاء من خشية الرحمن، وإنها لقطرات يحبها الله.. ففي حديث أبي إمامة الباهلي: ( ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين، وأثرين!! قال: في القطرتين قطرة دموع من خشية الله .. الحديث).

ومن ذلك نافلة الصلاة مطلقاً ففي حديث ثوبان عند مسلم أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة أو بأحب الأعمال إلى الله؟ فقال: (عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة).

وخاصة قيام الليل ففي الحديث: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم، ويستبشر بهم... ذكر منهم: الذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، يقوم من الليل فيقول الله: يذر شهوته، ويذكرني ولو شاء رقد)، وفي الحديث: (إن الله وتر يحب الوتر).

عباد الله: أذكروا الله ذكراً كثيراً، أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وكلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

والتكبير والتحميد والتهليل مما شرع في هذه العشر.

أيها المسلمون: أحب عباد الله إلى الله هو سيد الأولين والآخرين محمد -صلى الله عليه وسلم- لما حباه الله من الكمالات البشرية خاصة فيما يتعلق بجانب الأخلاق حتى أثنى عليه ربه ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ, عَظِيمٍ,))، فلنا فيه أسوة هاهو يُسأل عن أحب عباد الله إلى الله فيقول: (أحسنهم خلقاً)، فالله عز وجل كريم يحب الكرم، ومعالي الأخلاق، ويبغض سفسافها، يحب الحلم والأناة لحديث أشج عبدالقيس، يحب الرفق لحديث عائشة: (الله رفيق يحب الرفق)، يحب الحياء (وأن الله حيي ستير يحب الحياء والستر).

عباد الله الصدقة، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وتفريح المؤمن، وإدخال السرور على نفسه، وطرد الهم عنه مما يحبه الله -تعالى-.

فدونك هذا الحديث العظيم، فعن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الناس أحب إلى الله؟ أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب العمل إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عن كربه، أو تقضى عنه ديناً، أو أتطرد عنه جوعاً).

أيها الأحبة ما ذكرته هنا ليس المقصود منه الحصر فكل الأعمال الصالحة في هذه الأيام يحبها الله، ولكني خصصت ما ورد فيه النص بأنه محبوب عند الله وهو مشروع في كل وقت، والمقصود تحصيل أكبر ثمرة مرجوة من الأعمال الصالحة في هذه العشر، وإلا فهناك الدعاء وهو عبادة عظيمة، وهناك الصيام خاصة يوم عرفه، وهناك الحج والعمرة، وهناك المشي إلى المسجد، والمكث فيه، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة.

جعلنا الله من المسارعين في الخيرات، والذين هم لها سابقون، والحمد لله رب العالمين!!.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply