صيام الستة والتوسعة في النوافل


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

(صيام الست قبل القضاء):

تأملت الكتاب والسنة فألفيت باباً مفتوحاً واسعاً قد حفت به الحوافز والجوائز، ذلكم هو باب التطوّع والنوافل، حيث قد وسع الله فيه وجعله ميداناً للمسابقة ولم تكن الحال فيه كالحال في الواجبات.

إن هذا الدين -لا جرم- كله يسر وسماحة يقول -سبحانه-: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ"[البقرة: 185]، ويقول -جل وعلا-: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا"[البقرة: 286]، ويقول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).

ولكن الإسلام جعل للفرائض مكانة عظيمة كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) متفق عليه.

ولذا اعتنى الإسلام بكونها على صفة معينة قدر الاستطاعة بخلاف نوافلها فوسع فيها ولم يشترط لها جميع ما اشترط في الفرائض.

فالنوافل في باب الصلاة تصح من الجالس ولو كان قادراً على القيام (وتكون على النصف من ثواب القائم)، وتصح إلى غير القبلة على الراحلة في السفر، وتصح بالتيمم عند بعض العلماء في حال الخشية من فواتها.

والعمرة لكونها باباً للتطوع يتكرر في العام كثيراً (فليست كالحج) سقط فيها طواف الوداع في أقوى القولين في المسألة (وبه أفتى شيخنا ابن باز).

وفي باب الزكاة فتح تطوع الصدقة دون حد أو تقدير أو نصاب أو حول، بل دون تعيين مصرف لها سوى أن يكون موضع برٍّ, أَياً كان..

وكذلك الحال في باب الصيام حيث إن صيام التطوع يختلف عن صيام الفريضة في كونه يصح بنية من النهار (أي لا يجب فيه تبييت النية) ويجوز قطعه (الصائم المتطوع أمير نفسه) بخلاف الواجب فلا يجوز قطعه (ومنه صيام القضاء لا يجوز قطعه).

وإذا نظرنا إلى صيام الست من شوال فإنه لا يخرج عن كونه نوعاً من أنواع صيام التطوع ولذا ينبغي التوسعة فيه ما دامت الأدلة لا تمنع من ذلك فمن ذلك:

(1)             لا يشترط أن يبتدئ من ثاني يوم العيد كما قد يُظن بل لا نستطيع الجزم أنه أفضل إلا بالاستناد إلى فضيلة المبادرة إلى الأعمال الصالحة وخشية حصول المانع أما لفظ (ثم أتبعه ستاً من شوال) فليس نصاً صريحاً.

(2)             لا يشترط تتابع هذه الأيام فلو صامها مفرقة أدرك فضيلتها، وكذلك هنا لا نجزم بأن الأفضل تتابعها لعدم الدليل على ذلك، بل يرجع هذا إلى الأيسر على المسلم والأرفق به.

(3)             يصح بنية من النهار بمعنى أنه لو قام في الصباح ولم يكن نوى من الليل أن يصوم فله أن ينوي من النهار في أية ساعة ما دام لم يتناول مفطراً.

وهذه مسألة مختلف فيها، ولكن هذا الذي يظهر لي لأنه لا يخرج عن صيام التطوع وأحكامه ولا فرق بين التطوع المعين والتطوع المطلق والله أعلم.

(4)             لا يشترط في صيام الست أن يداوم عليها كل سنة بل هو تطوع متى صامه نال به الثواب وإن تركه فلا حرج عليه.

(5)             لا يشترط أيضاً أن تكون ستة أيام تامة بمعنى أن من صام منها يوماً نال ثوابه إن شاء الله فإن أتم الستة تحقق له ثواب الستة.

وإنما نبهت على هذا لكون البعض قد يظن أنه لا ثواب لها إلا أن تكون ستة فلو لم يستطع إلا على بعضها فلا داعي أن يصومها ولو بقي عليه من شوال يومان أو ثلاثة ولم يصم فإنه لا يصوم وهذا غير سديد إذ عموم الأدلة ظاهرة في أن كل حسنة يفعلها المسلم تكتب له كما في قوله -تعالى-: "فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ, خَيرًا يَرَهُ"[الزلزلة: 7] بل في بعض روايات حديث الست من شوال أنها كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فاليوم بعشرة أيام فإذاً من صام يوماً منها فهذا بعشرة ومن زاد زاده الله -تعالى-، ومثله يقال في اعتكاف العشر الأواخر من رمضان أن من اعتكف يوماً نال به ثوابه وليس شرطاً أن تكون عشرة.

(6)             بقيت مسألة مهمة تنازع فيها العلماء المتقدمون والمعاصرون وهي هل يصوم التطوع من كان عليه قضاء؟

 

في هذه المسألة ثلاثة أقوال: المنع وهو رواية في مذهب الحنابلة، والكراهة وبه قال المالكية والشافعية، والإباحة وبه قال الحنفية ورواية عند الحنابلة اختارها ابن قدامة، والذي يظهر لي في التطوع الذي يفوت وقته كصيام الست وعرفة وعاشوراء أنه يصح تقديمه على القضاء إذا أمن من نفسه التمكن من القضاء وإن كان الأفضل هو تقديم القضاء إن تيسر ذلك، ويدل لهذه التوسعة ما يلي:

أولاً: أن الأصل في قضاء الصيام أنه واجب موسع لقوله -تعالى-: "فَعِدَّةٌ مِّن أَيَّامٍ, أُخَرَ"[البقرة: 184]، ولم يدل على المنع من التطوع قبله دليل لعموم الحث على الصيام دون مثل هذا القيد، فمثلاً حين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بصيام عاشوراء أطلق ولم يقيد ذلك بمن لم يكن عليه قضاء.

ثانياً: حديث عائشة -رضي الله عنها-: "كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه إلا في شعبان الشغل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-" متفق عليه.

فلو قلنا لا بد من تقديم القضاء لكانت النتيجة بناء على قولها هذا أنها لا تصوم تطوعاً أبداً لا عرفة ولا عاشوراء ولا الست من شوال وهذا بعيد كل البعد في حق عائشة -رضي الله عنها-.

فإن قيل من صام الست قبل القضاء لم يدرك الفضيلة الواردة في حديث أبي أيوب رضي الله عنه- (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر) حيث إنه لم يصدق عليه أنه صام رمضان.

فنقول: أولاً أن من صام أكثر الشهر فيصدق عليه أنه صام رمضان بدليل حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله) متفق عليه، وتعني أكثره بدليل رواية مسلم: "كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا".

وحديث عائشة أيضاً الذي فيه: (... وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأول من شوال) مع أنه لم يعتكف سوى تسعة لأن أولها العيد، وكذلك حديث: (كان يصوم العشر) وعاشرها عيد، وهذا معروف في استعمال العرب أن الأكثر له حكم الكل، ولأجل ذلك نجد من القواعد الفقهية:

-       "الأكثر ينزل منزلة الكمال".

-       "يقام الأكثر مقام الكل".

وقال البهوتي الحنبلي: "الأكثر ملحق بالكل في أكثر الأحكام".

ثانياً: أن من صام رمضان وهو عازم على قضاء ما فاته بعذر فهو في حكم الصائم للشهر كله في الأجر إن شاء الله فإخراجه من عموم الحديث غير متجه والله أعلم.

ثالثاً: أن القول بمنع من عليه قضاء من صيام الست حتى يقضي ما عليه يؤدي في حالات كثيرة إلى ترك صيام الست لأن المرأة مثلاً يكون عليها من رمضان ستة أيام أو سبعة أيام، وربما أكثر ثم تأتيها العادة في شوال ستة أو سبعة فإذاً ربما تدخل العشر الأخيرة من شوال وهي لم تتفرغ لصيام الست لاسيما حين يؤخذ بالاعتبار ما يكون في أول أيام العيد من سفر أو فسحة وما يعرض للشخص من عذر ومانع.

وعلى هذا فإننا نقول للمرأة مثلاً حين يكون عليها أيام من رمضان بادري بالقضاء ثم صيام الست فإن كان في ذلك شيء من المشقة فصومي الست من شوال واقضي في الأشهر بعد ذلك، وهذا موافق لما ابتدأناه من التوسعة في باب التطوع والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply