أيها النيل

4.8k
3 دقائق
27 شوال 1428 (08-11-2007)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

مِـن أَيِّ عَهـدٍ, فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ? *** وبــأَيِّ كَـفٍّ, فـي المـدائن تُغـدِقُ?

ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ *** من عليــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ?

وبــأَيِّ عَيــنٍ,، أَم بأَيَّــة مُزنَــةٍ, *** أَم أَيِّ طُوفــانٍ, تفيــض وتَفهَــقُ?

وبــأَىِّ نَــولٍ, أَنـتَ ناسـجُ بُـردَةٍ, *** للضفَّتيـــن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ?

تَســـوَدٌّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا *** فـإِذا حـضرتَ اخـضَوضَرَ الإِستَبرَقُ

فــي كــلِّ آونــةٍ, تُبـدِّل صِبغـةً *** عجبًــا، وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ

أَتَـت الدهـورُ عليـكَ، مَهـدُكَ مُـترَعٌ *** وحِيــاضُكَ الشٌّــرق الشـهيَّةُ دُفَّـقُ

تَســقِي وتُطعِـمُ، لا إِنـاؤكَ ضـائِقٌ *** بـــالواردين، ولا خــوانُك يَنفُــقُ

والمــاءُ تَســكُبُه فيُسـبَكُ عَسـجَدًا *** والأَرضُ تُغرِقهــا فيحيــا المُغـرَقُ

تُعيــي مَنـابِعُك العقـولَ، ويسـتوي *** مُتخــبِّطٌ فــي علمِهــا ومُحــقِّقُ

أَخـلَقتَ راووقَ الدهـورِ، ولـم تـزل *** بــكَ حَمــأَةٌ كالمسـك، لا تَـتروَّقُ

حــمراءُ فـي الأَحـواض، إِلاّ أَنهـا *** بيضــاءُ فـي عُنُـق الـثرى تَتـأَلَّقُ

دِيــنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ, *** لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـن يَقُـوتُ ويَـرزُقُ?

لــو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن *** لِســواكَ مَرتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخـلُقُ

جـعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً *** إِنَّ العبـــادةَ خَشـــيةٌ وتَعلٌّـــقُ

دانــوا ببحــرٍ, بالمكــارِم زاخـرٍ, *** عَــذبِ المشــارعِ، مَـدٌّهُ لا يُلحَـقُ

مُتقيِّــــد بعهـــودِه ووُعـــودِه *** يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ

يَتقبَّــلُ الــوادي الحيــاةَ كريمـةً *** مــن راحَــتَيكَ عَمِيمــةً تتــدفَّقُ

متقلِّــب الجــنبين فــي نَعمائِــهِ *** يَعـرَى ويُصبَـغُ فـي نَـداك فيُـورِقُ

فيبيــتُ خِصبًـا فـي ثَـراه ونِعمـة *** ويعُمٌّــه مــاءُ الحيــاةِ الموسِـقُ

وإِليـك - بَعـدَ اللـهِ - يَرجِـع تحتـه *** مـا جَـفَّ، أَو مـا مـات، أَو ما يَنفُقُ

أَيـن الفراعنـةُ الأُلـى اسـتذرى بهـم *** (عيسى)، و(يوسف)، و(الكَلِيمُ) المصعَقُ?

المُــورِدونَ النــاسَ مَنهَـلَ حكمـةٍ, *** أَفضَــى إِليــه الأَنبيــاءُ ليَسـتقوا

الرافعــون إِلــى الضحـى آبـاءَهم *** فالشـمسُ أَصلُهـمُ الـوَضِيءُ المُعرِقُ

وكأَنمــا بيــن البِــلى وقبــورِهم *** عهــدٌ عـلى أَن لا مِسـاسَ، ومَـوثِقُ

فحجـابُهم تحـت الـثرى مـن هَيبَـةٍ, *** كحجــابهم فـوق الـثرى لا يُخـرَقُ

بلغــوا الحقيقـةَ مِـن حيـاة علمُهـا *** حُجُــبٌ مُكَثَّفَــةٌ، وسِــرُّ مُغلَــقُ

وتبيَّنـوا معنـى الوجـودِ، فلـم يَـرَوا *** دونَ الخـــلودِ ســـعادةً تَتحــقَّقُ

يَبنــون للدنيــا كمــا تَبنِـي لهـم *** خِرَبًــا، غـرابُ البَيـن فيهـا يَنعَـقُ

فقصــورُهم; كُــوخٌ، وبيـتُ بَـداوةٍ, *** وقبــورُهم; صـرحٌ أَشَـمٌّ، وجَوسَـقُ

رفعــوا لهـا مِـن جَـندَلٍ, وصفـائحٍ, *** عَمَــدًا، فكــانت حائطًـا لا يُنتَـقُ

تتشــايعُ الــدَّاران فيـه: فمـا بـدا *** دُنيـا، ومـا لـم يَبـدُ أُخـرى تَصدُقُ

للمــوتِ سِــرُّ تحتَــه، وجِــدارُه *** سُـورٌ عـلى السـرِّ الخـفيِّ، وخَـندَقُ

وكــأَنَّ مــنزلهم بأَعمــاقِ الـثرى *** بيــن المحلَّــةِ والمحلَّــةِ" فُنــدُقُ

مَوفــورةٌ تحــت الـثرى أَزوَادُهـم *** رَحـب بهـم بيـن الكهـوف المُطبِـقُ

ولِمَـن هيـاكلُ قـد عـلا البـاني بها *** بيــن الثريَّــا والــثَّرى تتنَسَّـقُ?

منهــا المشـيَّدُ كـالبروجِ، وبعضُهـا *** كــالطَّودِ مُضطَّجِــعٌ أَشَـمٌّ مُنَطَّـقُ

جُــدُدٌ كــأَوّلِ عهدهــا، وحِيالَهـا *** تتقــادَمُ الأَرضُ الفضــاءُ وتَعتُـقُ

مِــن كـلِّ ثقـلٍ, كـاهلُ الدٌّنيـا بـه *** تَعِـبٌ، ووَجـهُ الأَرضِ عنـه ضَيِّـقُ

عـال عـلى بـاع البِـلى، لا يَهتـدِي *** مــا يَعتــلِي منــه ومـا يَتسـلَّقُ

مُتمكِّـنٌ كـالطودِ أَصـلاً فـي الـثرى *** والفـرعُ فـي حَـرمِ السـماءِ مُحـلِّقُ

هــي مــن بنـاءِ الظلـمِ، إِلا أَنـه *** يَبيَـضٌّ وجـهُ الظلـمِ منـه ويُشـرِقُ

لــم يُـرهِق الأُمَـمَ الملـوكُ بمثلهـا *** فخــرًا لهــم يَبقَـى وذكـرًا يَعبَـقُ

فُتِنَــت بشـطَّيكَ العِبَـادُ، فلـم يـزل *** قـــاصٍ, يَحُجٌّهُمَــا، ودانٍ, يَــرمُقُ

وتضــوَّعَت مِسـكَ الدٌّهـورِ، كأَنمـا *** فــي كــلِّ ناحيـة بَخـورٌ يُحـرَقُ

وتقـابلت فيهـا عـلى السٌّـرُرِ الـدٌّمَى *** مُســـتَردِيات الـــذلّ لا تَتَفَنَّــقُ

عَطَلـت، وكـان مكـانُهنّ مـن العُلى *** (بِلقِيسُ) تَقبِسُ مــن حـلاهُ وتَسـرقُ

وعَـلا عليهـن الـترابُ، ولـم يكـن *** يَزكُــو بِهـنّ سـوى العبـير ويَلبَـقُ

حُجُراتُهــا مَوطــوءَةٌ، وســتورُها *** مَهتوكــةٌ، بيــد البِــلى تَتخــرّقُ

أَودَى بزينتهــا الزمــانُ وحَليهــا *** والحســنُ بــاقٍ, والشـبابُ الـرَّيِّقُ

لــو رُدَّ فِرعــونُ الغـداةَ; لراعـه *** أَنّ الغَـــرانيق العُــلَى لا تَنطــقُ

خــلع الزمـانُ عـلى الـورى أَيامَـه *** فـإِذا الضٌّحـى لـكَ حِصَّـةٌ والرَّونَقُ

لــكَ مــن مواسـمِه ومـن أَعيـادِه *** مــا تَحسِـرُ الأَبصـارُ فيـه وتَـبرَقُ

لا (الفرسُ) أُوتــوا مثَلـه يومًـا، ولا *** (بغدادُ) فـي ظـلِّ (الرشيد) و(جِـلَّق)

فَتــحُ الممـالك، أَو قيـامُ (العِجلِ)، *** أَو يـومُ القبـور، أَو الزفـافُ المُـونِقُ?

كــم مــوكبٍ, تَتخَـايلُ الدنيـا بـه *** يُجـلَى كمـا تُجـلَى النجـومُ ويُنسـقُ!

(فرعونُ) فيــه مـن الكتـائبِ مُقبِـلٌ *** كالسٌّـحبِ، قَـرنُ الشـمس منهـا مُفتِقُ

تَعنــو لعزَّتِــه الوجــوه، ووجهـهُ *** للشـمسِ فـي الآفـاقِ عـانٍ, مُطـرِقُ

آبــت مــن السـفرِ البعيـدِ جـنودُه *** وأَتتــه بــالفتحِ الســعيدِ الفَيلَــقُ

ومَشـى الملـوكُ مُصفَّـدِين، خـدودُهم *** نعــلٌ لفرعــونَ العظِيـم ونُمـرُقُ


أضف تعليق