نهج البردة ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

حتى بلغتَ سماءً لايُطارُ لها *** على جَناحٍ,، ولا يُسعَى على قَدمِ

 

وقيل: كلٌّ نبيٍّ, عند رتبتِه *** ويا محمدُ، هذا العرشُ فاستلمِ

                                                                                      

خطَطت للدين والدنيا علومَهما *** يا قارئَ اللوح، بل يا لامِسَ القَلمِ

 

أَحطتَ بينهما بالسرِّ، وانكشفت *** لك الخزائنُ من عِلم، ومن حِكمِ

 

وضاعَفَ القُربُ ما قُلِّدتَ من مِنَنٍ, *** بلا عِدادٍ,، وما طُوِّقتَ من نِعمِ

 

سل عصبةَ الشِّركِ حولَ الغارٍ, سائمةً *** لولا مطاردةُ المختار لم تُسمِ

 

هل أبصروا الأَثر الوضَّاءَ، أَم سمِعوا *** همسَ التسابيحِ والقرآن من أَمَمِ?

 

وهل تمثّل نسجُ العنكبوتِ لهم *** كالغابِ، والحائماتُ الزٌّغبُ كالرخمِ?

 

فأَدبروا، ووجوهُ الأَرضِ تلعنُهم *** كباطلٍ, من جلالِ الحق منهزِمِ

 

لولا يدُ اللهِ بالجارَينِ ما سلِما *** وعينُه حولَ ركنِ الدين; لم يقمِ

 

توارَيا بجَناح اللهِ، واستترَا *** ومن يضُمٌّ جناحُ الله لا يُضَمِ

 

يا أَحمدَ الخيرِ، لي جاهٌ بتسمِيَتي *** وكيف لا يتسامى بالرسولِ سمِي?

 

المادحون وأَربابُ الهوى تَبَعٌ *** لصاحبِ البُردةِ الفيحاءِ ذي القَدَمِ

 

مديحُه فيك حبُّ خالصٌ وهوًى *** وصادقُ الحبِّ يُملي صادقَ الكلمِ

 

الله يشهدُ أَني لا أُعارضُه *** من ذا يعارضُ صوبَ العارضِ العَرِمِ?

 

وإِنَّما أَنا بعض الغابطين، ومَن *** يغبِط وليَّك لا يُذمَم، ولا يُلَمِ

 

هذا مقامٌ من الرحمنِ مُقتَبسٌ *** تَرمي مَهابتُه سَحبانَ بالبَكمِ

 

البدرُ دونكَ في حُسنٍ, وفي شَرفٍ, *** والبحرُ دونك في خيرٍ, وفي كرمِ

 

شُمٌّ الجبالِ إِذا طاولتَها انخفضت *** والأَنجُمُ الزٌّهرُ ما واسمتَها تسِمِ

 

والليثُ دونك بأسًا عند وثبتِه *** إِذا مشيتَ إِلى شاكي السلاح كَمِي

 

تهفو إِليكَ - وإِن أَدميتَ حبَّتَها *** في الحربِ - أَفئدةُ الأَبطالِ والبُهَمِ

 

محبةُ اللهِ أَلقاها، وهيبتُه *** على ابن آمنةٍ, في كلِّ مُصطَدَمِ

 

كأَن وجهَك تحت النَّقع بدرُ دُجًى *** يضيءُ مُلتَثِمًا، أَو غيرَ مُلتثِمِ

 

بدرٌ تطلَّعَ في بدرٍ,، فغُرَّتُه *** كغُرَّةِ النصر، تجلو داجيَ الظلَمِ

 

ذُكِرت باليُتم في القرآن تكرمةً *** وقيمةُ اللؤلؤ المكنونِ في اليُتمِ

 

اللهُ قسّمَ بين الناسِ رزقَهُمُ *** وأَنت خُيِّرتَ في الأَرزاق والقِسمِ

 

إِن قلتَ في الأَمرِ: "لا"، أَو قلتَ فيه: "نعم" *** فخيرَةُ اللهِ في "لا" منك أَو "نعمِ"

 

أَخوك عيسى دَعَا ميتًا، فقام لهُ *** وأَنت أَحييتَ أَجيالاً مِن الرِّممِ

 

والجهل موتٌ، فإِن أُوتيتَ مُعجِزةً *** فابعث من الجهل، أَو فابعث من الرَّجَمِ

 

قالوا: غَزَوتَ، ورسلُ اللهِ ما بُعثوا *** لقتل نفس، ولا جاءُوا لسفكِ دمِ

 

جهلٌ، وتضليلُ أَحلامٍ,، وسفسطةٌ *** فتحتَ بالسيفِ بعد الفتح بالقلمِ

 

لما أَتى لكَ عفوًا كلٌّ ذي حَسَبٍ, *** تكفَّلَ السيفُ بالجهالِ والعَمَمِ

 

والشرٌّ إِن تَلقَهُ بالخيرِ ضِقتَ به *** ذَرعًا، وإِن تَلقَهُ بالشرِّ يَنحسِمِ

 

سَل المسيحيّةَ الغراءَ: كم شرِبت *** بالصّاب من شَهوات الظالم الغَلِمِ

 

طريدةُ الشركِ، يؤذيها، ويوسعُها *** في كلِّ حينٍ, قتالاً ساطعَ الحَدَمِ

 

لولا حُماةٌ لها هبٌّوا لنصرَتِها *** بالسيف; ما انتفعت بالرفق والرٌّحَمِ

 

لولا مكانٌ لعيسى عند مُرسِلهِ *** وحُرمَةٌ وجبت للروح في القِدَمِ

 

لَسُمِّرَ البدَنُ الطٌّهرُ الشريفُ على *** لَوحَين، لم يخشَ مؤذيه، ولم يَجمِِ

 

جلَّ المسيحُ، وذاقَ الصَّلبَ شانِئهُ *** إِن العقابَ بقدرِ الذنبِ والجُرُمِ

 

أَخُو النبي، وروحُ اللهِ في نُزُل *** فُوقَ السماءِ ودون العرشِ مُحترَمِ

 

علَّمتَهم كلَّ شيءٍ, يجهلون به *** حتى القتالَ وما فيه من الذِّمَمِ

 

دعوتَهم لِجِهَادٍ, فيه سؤددُهُم *** والحربُ أُسٌّ نظامِ الكونِ والأُممِ

 

لولاه لم نر للدولاتِ في زمن *** ما طالَ من عمد، أَو قَرَّ من دُهُمِ

 

تلك الشواهِدُ تَترَى كلَّ آونةٍ, *** في الأَعصُر الغُرِّ، لا في الأَعصُر الدٌّهُمِ

 

بالأَمس مالت عروشٌ، واعتلت سُرُرٌ *** لولا القذائفُ لم تثلَم، ولم تصمِ

 

أَشياعُ عيسى أَعَدٌّوا كلَّ قاصمةٍ, *** ولم نُعِدّ سِوى حالاتِ مُنقصِمِ

 

مهما دُعِيتَ إِلى الهيجَاءِ قُمتَ لها *** ترمي بأُسدٍ,، ويرمي اللهُ بالرٌّجُمِ

 

على لِوَائِكَ منهم كلٌّ مُنتقِمٍ,  *** لله، مُستقتِلٍ, في اللهِ، مُعتزِمِ

 

مُسبِّح للقاءِ اللهِ، مُضطرِمٍ,  *** شوقاً، على سابحٍ, كالبرقِ مضطرِمِ

 

لو صادفَ الدَّهرَ يَبغِي نقلةً، *** فرمى بعزمِهِ في رحالِ الدهرِ لم يَرِمِ

 

بيضٌ، مَفاليلُ من فعلِ الحروبِ بهم *** من أَسيُفِ اللهِ، لا الهندِية الخُذُمِ

 

كم في الترابِ إِذا فتَّشت عن رجلٍ, *** من ماتَ بالعهدِ، أَو من مات بالقسَمِ

 

لولا مواهبُ في بعضِ الأَنام لما *** تفاوت الناسُ في الأَقدار والقِيَمِ

 

شريعةٌ لك فجرت العقولَ بها *** عن زاخِرٍ, بصنوفِ العلم ملتطِمِ

 

يلوحُ حولَ سنا التوحيدِ جوهرُها *** كالحلي للسيف أَو كالوشي للعَلمِ

 

غرّاءُ، حامت عليها أَنفسٌ، ونُهًى *** ومن يَجد سَلسَلاً من حكمةٍ, يَحُمِ

 

نورُ السبيل يساس العالَمون بها *** تكفَّلت بشباب الدهرِ والهَرَمِ

 

يجري الزمّانُ وأَحكامُ الزمانِ على *** حُكم لها، نافِذٍ, في الخلق، مُرتَسِمِ

 

لمَّا اعتلَت دولةُ الإِسلامِ واتسَعت *** مشت ممالِكُهُ في نورِها التَّممِ

 

وعلَّمت أُمةً بالقفر نازلةً *** رعيَ القياصرِ بعد الشَّاءِ والنَّعَمِ

 

كم شَيَّد المصلِحُون العاملون بها *** في الشرق والغرب مُلكًا باذِخَ العِظَمِ

 

للعِلم، والعدلِ، والتمدينِ ما عزموا *** من الأُمور، وما شدٌّوا من الحُزُمِ

 

سرعان ما فتحوا الدنيا لِملَّتِهم *** وأَنهلوا الناسَ من سَلسالها الشَّبِمِ

 

ساروا عليها هُداةَ الناس، فَهي بهم *** إِلى الفلاحِ طريقٌ واضحُ العَظَمِ

 

لا يهدِمُ الدَّهرُ رُكنًا شاد عدلُهُمُ *** وحائط البغي إِن تلمسهُ ينهدِمِ

 

نالوا السعادةَ في الدَّارين، واجتمعوا *** على عميم من الرضوان مقتسمِ

 

دع عنك روما، وآثِينا، وما حَوَتا *** كلٌّ اليواقيت في بغدادَ والتٌّوَمِ

 

وخلِّ كِسرى، وإِيوانًا يدِلٌّ به *** هوى على أَثَرِ النيران والأيُمِ

 

واترُك رعمسيسَ، إِن الملكَ مَظهرهُ *** في نهضة العدل، لا في نهضة الهرَمِ

 

دارُ الشرائع روما كلّما ذُكرَت *** دارُ السلام لها أَلقت يدَ السَّلَمِ

 

ما ضارَعَتها بيانًا عند مُلتَأَم *** ولا حَكَتها قضاءً عند مُختصَمِ

 

ولا احتوت في طِرازٍ, مِن قياصِرها *** على رشيدٍ,، ومأمونٍ,، ومُعتصِمِ

 

من الذين إِذا سارت كتائبُهم *** تصرّفوا بحدود الأَرض والتخُمِ

 

ويجلسونَ إِلى علمٍ, ومَعرفةٍ, *** فلا يُدانَون في عقل ولا فَهَمِ

 

يُطأطئُ العلماءُ الهامَ إِن نَبَسُوا *** من هيبةِ العلم، لا من هيبة الحُكُمِ

 

ويُمطِرون، فما بالأَرضِ من مَحَلٍ, *** ولا بمن بات فوق الأَرضِ من عُدُمِ

 

خلائفُ الله جلٌّوا عن موازنةٍ, *** فلا تقيسنّ أَملاكَ الورى بهمِ

 

مَن في البرية كالفاروق مَعدَلَةً? *** وكابن عبد العزيز الخاشعِ الحشمِ?

 

وكالإِمام إِذا ما فَضَّ مزدحمًا *** بمدمع في مآقي القوم مزدحمِ

 

الزاخر العذب في علم وفي أَدبٍ, *** والناصر النَّدب في حرب وفي سلمِ?

 

أَو كابن عفّانَ والقرآنُ في يدِهِ *** يحنو عليه كما تحنو على الفُطُمِ

 

ويجمع الآي ترتيبًا وينظمُها *** عقدًا بجيد الليالي غير منفصِمِ?

 

جُرحان في كبدِ الإِسلام ما التأَما *** جُرحُ الشهيد، وجرحٌ بالكتاب دمي

 

وما بلاءُ أَبي بكر بمتَّهم *** بعد الجلائل في الأَفعال والخِدمِ

 

بالحزم والعزم حاطَ الدين في محنٍ, *** أَضلَّت الحلم من كهلٍ, ومحتلمِ

 

وحِدنَ بالراشد الفاروق عن رشدٍ, *** في الموت، وهو يقينٌ غير منبَهمِ

 

يجادِلُ القومَ مُستَلاًّ مهنَّدَه *** في أَعظم الرسلِ قدرًا، كيف لم يدمِ?

 

لا تعذلوه إِذا طاف الذهولُ به *** مات الحبيبُ، فضلَّ الصَّبٌّ عن رَغَمِ

 

يا ربِّ صَلِّ وسلِّم ما أَردتَ على *** نزيل عرشِك خيرِ الرسل كلِّهمِ

 

مُحيي الليالي صلاةً، لا يقطِّعُها *** إِلاَّ بدمع من الإِشفاق مُنسجمِ

 

مسبِّحًا لك جُنحَ الليل، محتملاً *** ضُرًّا من السٌّهد، أَو ضُرًّا من الورَمِ

 

رضيَّة نفسُه، لا تشتكي سأمًا *** وما مع الحبِّ إِن أَخلصت مِن سَأَمِ

 

وصلِّ ربِّي على آلٍ, لهُ نُخَبٍ, *** جعلتَ فيهم لواءَ البيتِ والحرمِ

 

بيضُ الوجوه، ووجهُ الدهر ذو حَلَكٍ, *** شُمٌّ الأُنوف، وأَنفُ الحادثات حمي

 

وأَهد خيرَ صلاةٍ, منك أَربعةً *** في الصحب، صُحبتُهم مَرعيَّةُ الحُرَمِ

 

الراكبين إِذا نادى النبيٌّ بهم *** ما هال من جَلَلٍ,، واشتد من عَمَمِ

 

الصابرين ونفسُ الأَرض واجفةٌ *** الضاحكين إِلى الأَخطار والقُحَمِ

 

يا ربِّ، هبت شعوبٌ من منيّتها *** واستيقظت أُمَمٌ من رقدة العدمِ

 

سعدٌ، ونحسٌ، ومُلكٌ أَنت مالِكه *** تُديلُ مِن نِعَم فيه، ومِن نِقَمِ

 

رأَى قضاؤك فينا رأيَ حكمتِه *** أَكرِم بوجهك من قاضٍ, ومنتقمِ

 

فالطُف لأَجلِ رسولِ العالمين بنا *** ولا تزد قومَه خسفًا، ولا تُسمِ

 

يا ربِّ، أَحسنت بَدءَ المسلمين به *** فتمِّم الفضلَ، وامنح حُسنَ مُختَتَمِ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply