لا يطوع الشعر البارع، إلا لمن يردد نظره على كثير من الأشعار البليغة، ويملأ منها حافظته، ثم يأخذ قريحته بالتمرين على النظمِ الفينةَ بعد الفينةِº فهذان ركنان لتربية ملكة الشعر وترقيتها.
فإذا أتيح للشاعر مع هذا جودةُ هواءِ المنازل التي يتقلب فيها وحسنُ مناظرها، ووثق بأن في قومه من يقبل على الشعر، ويقدر مراتب الشعراء - لم يلبث أن يأتي بما يسترقٌّ الأسماع، ويسحر الألباب.
وشأنُ مَن يزاول العلوم ذات المباحث العميقة، والقوانين الكثيرة، أن لا يبلغ الذروة في صناعة القريضº ذلك أن الناشئ الذي يقبل على طلب العلوم إقبال من يروم الرسوخ في فهمها والغوص على أسرارها لا يجد من الوقت ما يصرفه في حفظ المقدار الكافي من أشعار البلغاء، وفي تمرين قريحته على النظم تمريناً يصعد بها إلى الذروة، وإذا صرف من وقته في الحفظ والتمرين ما فيه الكفاية وجد من قريحته المعنية بالبحث عن الحقائق العلمية ما يبطئ به عن اختراع معان خيالية بديعة.
ونظر ابن خلدون في وجه قصور العلماء عن التناهي في صناعة الشعر، وأبدى أن السبب ما يسبق إليهم من حفظ المتون العلميةº فإن عبارات هذه المتون - وإن كانت على وقف العربية - لا يراعى فيها قانون البلاغة.
وامتلاءُ الذهن من الكلام النازل عن البلاغة، لا يخلو من أن يكون له أثر في النظمº فيقصر به عن المرتبة العالية من الفصاحة، فلو انبعثت قريحته في فضاء واسع من الخيال، واستطاعت اختراع صور غريبة، لخدشت تلك المحفوظات ملكة فصاحته، فيخرج الشعر وفي ألفاظه أو في نسج جُمَلِه ما يتجافى عنه الذوق، فلا تُتَلَقَّى تلك الصور بالارتياح وإن كانت في نفسها غريبة.
فالتوغل في العلوم يضايق ملكة الشعر، وأشد ما يضايقها العلوم النظرية، كالمنطق، والكلام الفلسفة، والفقه، ولا سيما ما يعنى صاحبه بالبحث في طرق الاستنباط، ويتعلم كيف يطبق الأصول على الوقائع الخارجية.
وعلوم النحو والصرف والبيان، معدودة في وسائل إحكام صنعة الشعر، ومتى درست على طريقة التوسع في مسائل الخلاف ومناقشة الآراء والأدلة والعبارات، أصبحت في خدش ملكة الشعر كالمباحث الفلسفية أو الفقهية.
وقد يكون في الرجل قوة الشاعرية فيهجرها، فتضعف حتى لا تواتيه عندما يهم باستدرارها، قال أبو القاسم الأندلسي: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر، فقال: إني أغبطكم على قول الشعرº فإن خاطري لا يوافقني على قوله على تحقيقي في العلوم التي هي موادّه، فقال له رجل: فما قلت قط شيئاً منه؟ قال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً *** وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضِب مخافة هجر خلٍّ, *** ولا عـيباً خشيت ولا عتابا
ولـكن الـمشيب يـداً ذميماً *** فـصيرت الخضاب له عقابا
فهذه الأبيات تدل على أن في أبي علي الفارسي مبدأَ نظمٍ, الشعر، وعدمُ مواتاة الشعر له عندما يهم بنظمه ناشئٌ من عدم إقباله على هذه القوة بالتربية والتهذيب.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد