كأس العالم رؤى متعددة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 تجاوزت الرياضة مفهومها التقليدي كوسيلة لاستعادة النشاط واكتساب القوة أو نوعاً من التسلية والترفيةº ولم تعد الكؤوس والميداليات تُحصد في الألعاب الرياضية المختلفة دون مؤسسية وعلمية. فالرياضة أصبحت علماً يقوم على نظريات تُدرَس في الكليات التي تعنى بالتربية البدنية في الجامعات، وتضاءل دور الرياضيين الهواة في الساحة ليدخل (غول الاحتراف) دنيا الرياضة من أوسع أبوابها، فكلنا نلم بسيناريوهات التعاقدات والصفقات التي تتسابق الأندية والمنتخبات في عقدها مع اللاعبين المبرزين في مختلف الألعاب الرياضية، إذ تحول النادي من دار ترعى بعض اللاعبين الهواة إلى شركة متعددة النشاطات تُدار بمؤسسية وحرفية عالية فتستفيد هذه الشركات من اسم النادي وسمعته في تسويق منتجاتها وفي عقد الصفقات الإعلانية وعقود الرعاية مع أكبر الشركات في العالم مثل شركة (سيمينس) لخدمات الهاتف المحمول وشركتي (نايك) و(أديداس) اللتين ترعيان العديد من الأندية والمنتخبات في مختلف الألعاب الرياضية.

تتوجه الأنظار صوب ملاعب ألمانيا لكرة القدم لمتابعة فعاليات أكبر حدث رياضي في العالم (كأس العالم) بمشاركة العديد من المنتخبات من مختلف قارات العالم، وكما نعلم فإن الدول تتسابق لاستضافة هذا المحفل الكبير لما يعود عليها من فوائد كثيرة، فموسم كأس العالم في البلد المضيفة هو موسم الغنيمة الكبرى حيث تنشط حركة التجارة والسياحة فترتفع أسهم بعض الشركات المحلية وينفتح باب الاستثمار على مصراعيه للمستثمرين ورجال الأعمال الذين يُساهمون في تحريك الطاقات البشرية المجمدة (البطالة) فيقدمون بذلك خدمة جليلة للدولة المضيفة وإن كان تشغيلهم إلى حين. ولا ننسى كذلك تسابق القنوات الفضائية في احتكار بث المنافسة فتبرم العقود الإعلانية مع كبريات الشركات والمؤسسات لتستفيد هذه الشركات المحتكرة من العائد الإعلاني الضخم، كما تبيع بطاقات (كروت) لمشتركيها حتى يتمكنوا من متابعة هذا العرس الكروي الكبير. وأحيانا يستفيد الحزب الحاكم أو الأحزاب السياسية الأخرى من هذا الحدث الرياضي في الدعاية والترويج للحزب وأعضائه ومنجزاته خاصة إذا كان شعبهم مولعا بحب الرياضة وكرة القدم فتقوم الحكومات أو الأحزاب الأخرى بدور الراعي لمنتخب البلاد فيُدعم دعماً سخيا في معسكراته ومبارياته الودية وتُوفَر له كل سبل الراحة، مثل ما فعل الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) الذي دعم منتخب بلاده دعما غير محدود في كأس العالم (98) بفرنسا والذي فازت به فرنسا ذاتها، وعلق البعض أن سبب فوز (شيراك) بالانتخابات الرئاسية هو ذاك الاهتمام المتعاظم الذي أولاه لمنتخب بلاده فكسب بذلك رضاء الشعب.

وبرغم تصدر الأحداث السياسية الساخنة كالمفاوضات مع حركات التمرد في دارفور بغرب السودان أو الاعتداء الصهيوني الدائم على أرض فلسطين, أو وقوع ضحايا جدد جراء العدوان الأمريكي على العراق, أوحدوث مأساة إنسانية في أند ونسيا ولا ننسى ثورة القضاة في مصرºبرغم تصدر هذه الأحداث عناوين الأخبار إلا أن حمى كأس العالم أصابت العالم بلوثة فأصبح حديث الكل يدور في فلك المستديرة، وحتى الساسة والكتاب صاروا يُذيِلوا مقالاتهم وكتاباتهم بتعليق عن كأس العالم، بل يذهب بعضهم أبعد من ذلك فيُقحِم بعض المصطلحات الرياضية في نسيج حديثة(الكرة الآن في ملعب الحزب الفلاني، اللعب الخشن، الزمن الضائع، أحرز هدفا،....... الخ). وهذا السياق يذكرني بتصريح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والذي وعد بأن يحتل مقعداً لتشجيع منتخب بلاده في ملاعب ألمانياº ولا تستغربوا إذا اجتمع مجلس الأمن الدولي مع الرئيس الإيراني قبيل انطلاقة مباريات منتخب بلاده للتفاوض معه حول إمكانية كبح برنامجه النووي و إلغاء فكرة تخصيب اليورانيوم مقابل حصول منتخب إيران على كأس العالم، حقيقة لا أدري كيف سيتصرف الرئيس الإيراني وهو المشهور بحبه الكبير لكرة القدم!!.

قد لا تكون البرازيل من الدول ذات الثقل الاقتصادي في أمريكا الجنوبية ناهيك عن العالم، إلا أن البرازيل اليوم على كل لسان، وعَلمُ البرازيل كذلك معلوم لدى الصغير قبل الكبير، كل ذلك بفضل منتخبها ولاعبيها الذين أطبقت شهرتهم الآفاق وما انفكوا يحصدون الكؤوس الواحد تلو الآخر حتى بلغ عدد بطولات كأس العالم التي أحرزوها الخمس كرقم قياسي يصعب كسره، فمن منا لا يعرف رونالدو أو رونالدينو أوصاحب القدم اليسرى القوية روبرتو كارلوس؟ ومن منا لا يُدهش حين يتناقل لاعبوا المنتخب البرازيلي كرة القدم بينهم في خفة وسلاسة! والطريف في الأمر أن لاعبي المنتخب البرازيلى لكرة القدم معروفون أكثر من حكومة البرازيل ذاتها! بل الحكومة نفسها تستقبل هذا المنتخب في أفخم القاعات الرئاسية، كيف لا وهو الذي يدُر على البلاد العملة الصعبة (لغة المال إذن)، وقطعاً لو تقدم رونالدو أو رونالدينو في الانتخابات الرئاسية لفازا بها وبأغلبية ساحقة. وأظن أن المنظر لن يكون غريبا إذا انبرى الرئيس البرازيلي (رونالدنيو) يشرح لوزرائه كيفية تنفيذ خطة 4/4/ 2لمباغتة العدو في عقر داره أو كيف تطبق الخطة الدفاعية المحكمة مع الاعتماد على الهجمات المرتدة إذا كان الخصم من العيار الثقيل!. نفس المستديرة التي قضت بخروج بعض الدول إلى حيز الوجودºهي اليوم وفي هذا المحفل العالمي الكبير تقدم منتخبات لدول لا تلقى نصيباً حتى في نشرات الأخبار كمنتخبات أنغولا و توغو من قارة إفريقيا وتنتظر هذان الفريقان مقابلتان هامتان يومي 11-12/6/2006 م أمام البرتغال و كوريا الجنوبية على التوالي، فإن قلب الفريقان (توغو، انغولا) الطاولة على خصميهما، حتماً سترتفع أسهم لاعبيهم في بورصات اللاعبين وستتناقل أخبار انتصاراتهم وكالات الأنباء، وربما تتسابق أعتى الفرق الأوربية للتعاقد معهم (أحلام!)، كما قلت أحلام تسيطر على شعوب هذه البلدان الفقيرة المغمورة وهم ينتظرون أن تحقق منتخباتهم المعجزات فيعتلوا منصت التتويج (ولو كان البرونز حظهم) حتى تجد العملات الصعبة طريقها إليهم.

 

السياسة تنتقل لملاعب كرة القدم:

برغم ما قد ظل ينادي به الكثيرين بأن الرياضة وبخاصة كرة القدم هي دبلوماسية شعبية تتجاوز كل الخلافات والصراعات السياسية والعسكرية، وتسعي للتواصل الحميم بين الدول في ظل منافسة حبية شريفة إلا أن المشاكل السياسية وظروف الاحتراب بين بعض الدول غالبا ما تلقي بظلالها على مواجهة فريقي الدولتين المتناحرتينºفتكون المباراة أشبة بمعركة حربية تكثر فيها الصدامات والمشادات الكلامية والتعبيرات العنصرية، فيرسم مدربوا الفريقين الخطط في الملعب وكأنهم يضعون خططاً وتكتيكات حربية، ويا ويل الفريق المهزوم من غضب جمهوره، وأحيانا يمتد سيل الغضب إلى رئيس الدولة وأركان حربه إذ يعتبرون أن هذه الهزيمة نذير شؤم لما تخفيه مقبل الأيام، وعلى النقيض تماما فإن الفريق الفائز تسهر بلاده حتى الصباح وهي تحتفل بهذا الانتصار المزدوجº انتصارا على أرضية الملعب وآخر نفسياً يشحذ الهمم ويلوح ببشارات النصر الأكبر. وكما قلت فإن الأجندة السياسية قد تطفو على السطح عند المواجهة بين منتخبات الدول المتخاصمة وخير مثال على ذلك اللقاء الذي جمع إيران وأمريكا في فعاليات كأس العالم (98)بفرنسا وما صاحبه من زخم إعلامي كبير انتهى بتبادل لاعبي الفريقين باقات الورود والقبلات على أرضية الملاعب! فخاب ظن الملايين الذين كانوا يرقبون هذا المشهد! علماً بأن المباراة انتهت لصالح إيران بهدفين مقابل هدف لأمريكا. وفي هذا الكأس ربما تشهد بعض المقابلات هالة إعلامية وشحنا سياسا وبخاصة إذا التقى منتخبا أمريكا واليابان اللذان يمكن أن يلتقيا بحسابات كرة القدم ولكن هل تكون للخصومات السياسية حسابات أخرى على أرض الملعب؟ سنرى.

وكذلك اللقاء الذي سيجمع أنغولا بالبرتغال فهل ستذيق أنغولا المستعمر السابق والجلاد حنظل الهزيمة؟ أيضاً سنرى.

ما بين أماني هذا المنتخب وذاك، ووسط جو مشحون بصيحات الجماهير وانفعالاتهم تمشي المستديرة تتبختر في خيلاء وهي ترى الأجساد والأنفاس والنظرات تلاحقها أينما تدحرجت أو استكانت داخل المستطيل الأخضر أو خارجه (أيامك يا كورة!).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply