كأس العالم ومواقف الثقافة الإسلامية من كرة القدم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تحولت لعبة " كرة القدم " إلى حدث عالمي يتكرر كل أربع سنوات، يستأثر بمشاهدة أكثر من ثلاثة مليارات إنسان، أي ما يساوي نصف سكان المعمورة! وبالرغم من أنني لست من هواة هذه اللعبة - التي أصبحت هوساً في بعض دول الخليج العربي- وبالكاد أحفظ أسماء بعض لاعبيها، وأعتبر أن قدمي هي أسوأ قدم للاعب كرة قدم، إلاّ أنني لا أخفي متابعتي لبعض مباريات كأس العالم الجارية، خصوصاً تلك التي يكون أحد أطرافها عربًا أو مسلمين، أو أحد المنتخبات ذائعة الصيت، وأعترف أنها لمجرّد المتعة أحياناً، وأحياناً أخرى بدوافع سياسية، وأحياناً ثالثةً خوفاً من الانعزال عن العالم في حدث عالمي!

وفي كل مرّة تطغى الهموم الثقافية على انشغالاتي، التي تكون في العادة بعيدةً جداً عن حدث كهذا، ولكن هذه المرّة استوقفتني مفارقة يقع فيها البعض الذين يتخذون موقفاً سلبياً (إذا تحفظنا في الوصف) تجاه لعبة كرة القدم عموماً، وكأس العالم خصوصاً، ثم لا يتورعون عن المتابعة التفصيلية للمباريات والاستغراق فيها حتى الثمالة! لم تستوقفني المفارقة بحد ذاتها بالرغم من أنها تستحق التأمل، وإنما استوقفني وجود موقف في الثقافة الإسلامية تجاه اللعبة، أخذ يستأثر ببعض اهتمامي هذه الأيام، ونظراً لاشتداد حمى المونديال، فإنني سوف أقدم للقارئ ما وجدته في تفصيلات هذا الموقف واتجاهاته الرئيسية.

 

موقف سياسي: مؤامرة

يعتبر الكثيرون أن "كرة القدم" وجدت لإلهاء الناس عن قضاياهم الكبرى، ودفعهم إلى تضييع أوقاتهم من أجل نسيان مشكلاتهم، وتمرير الدول "الإمبريالية" -ذات المصالح- لإرادتها ومشاريعها في أجواء من ذهول الشعوب ـ وخصوصاً المسلمة ـ عما يدور حولها ويحاك لها. وعادةً ما يتم الاستشهاد بالقضية الفلسطينية، ويساعدهم الآن الأحداث المأساوية في فلسطين والضفة الغربية على وجه الخصوص، وأحداث الحرب ضد الإرهاب وخصوصاً في أفغانستان.

في مقابل ذلك قلة من الناس يجد أن هذه اللعبة لا تتضمن "أي مؤامرة"، وإنما ينظرون إليها باعتبارها "رياضة" متميّزة اكتسبت شهرتها وأهميتها من متعتها وواقعيتها وجمالها.

في كلا الحالتين ثمة مشكلة، فبينما يكون الدافع الرئيس لاحتقار كرة القدم ومبارياتها الدولية هو الاستغراق في "نظرية المؤامرة" التي تسود الآن العالم الإسلامي برّمته بسبب الظروف المريعة التي يمرّ بها، يكون الدافع وراء تقبلها "دون شروط" ردّة الفعل على الموقف الأول. ردّة الفعل هذه التي تنسي إمكان استغلال السياسيين لمثل هذه الظروف، بالرغم من أنهم أنفسهم متأثرون بحمّى كأس العالم، بحيث يعطون من أوقاتهم ما يتابعون به بعض المباريات، وفي المباريات الوطنية غالباً ما يشاهدونها كاملة، لا شك أننا نتذكر كيف حضر الرئيس الفرنسي جاك شيراك في المونديال السابق المباراة الأخيرة التي حصلت فيها فرنسا على كأس العالم لأول مرّة في تاريخها، فيما رؤساء وملوك عديدون يتابعون المباريات على شاشات التلفزة. أضف إلى ذلك أنه أصبح ينظر إلى لعبة كرة القدم كشكل من أشكال التعبير عن الشعوب وهو ما يجعلها تتضمن شيئاً من "الفعل السياسي"، وكلنا يذكر مباراة إيران والولايات المتحدة منذ أكثر من عامين، وكيف أخذت منحًا سياسياً حتى في سياق التحليلات الإخبارية، إذ اعتبُرت مؤشراً لتقارب إيراني أمريكي آنذاك.

 

موقف فقهي: محرّمات شرعية

يلفت البعض الانتباه ـ محقاً ـ إلى وجود كشف للعورات في اللباس الرياضي، وهو أمرٌ يخالف الشريعة الإسلامية. ولكن هؤلاء لا ينتبهون أيضاً إلى أن آخرين يجدون موضوع كشف العورات غير متحقق، لأن عورة "الفخذ" للرجال مختلف فيها، ويستدلون خصوصاً بالمذهب المالكي في أحد أشهر رأييه الذي يحصر العورة بالسوأتين، وطبعاً يرددون الحديث الصحيح الذي يذكر انكشاف فخذ النبي أمام أبي بكر وعمر دون أن يغطيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يغطّه إلاّ لأجل حياء عثمان بن عفان - رضي الله عنهم -  والخلاف في وصف هذا الشأن معروف.

لكن مسألة الاستدلال الفقهي لا تتوقف عند "كشف العورة" بالرغم من أنها أساسية في النقاش الفقهي إذا جاز لنا تسميته كذلك ـ إذ يذهب البعض أكثر من ذلك، فيرى مسألة "الاحتراف" والتفرغ للعب ما يناقض الشريعة الإسلامية إذ الوقت "هبةٌ من الله" سوف يسأل الإنسان عنها، واللعب ليس إلاّ تصرفاً بالمباح في أحسن أحواله، وهو ما يسميه العلماء "مباح في الجزء محرم في كل" (جرياً مع الإمام الشاطبي في مقاصد الشريعة) أي أن أيَّ فعل مباح يجب أن يبقى في حدود لا تطغى على كل الفعل الإنساني، فلدى الإنسان تكاليف كثيرة، حتى لو أداها فإن إهدار "الوقت" كله في غير "المفيد" (اللعب) هو مما يناقض مقاصد التشريع وأحكامه.

لكن هذا الموقف الفقهي يجد معارضةً لدى البعض الذين يرون في "اللعب" والتدريب عليه نفعاً "مادياً" و"بدنياً"، إذ يتحول اللعب إلى مهنة "نافعة" أي إلى عمل، من جهة يخدم الفطرة الإنسانية بتقديم المتعة المباحة (بدلاً من المحرمة) والتمتع بالطيبات وهو من صميم الإطار الشرعي الإسلامي، ومن جهة ثانية يتقوى بدنياً، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -) ويزيد هؤلاء نقاشهم استدلالاً بالسؤال: أليس التدرب على ركوب الخيل والسباق جائزًا شرعاً؟ (وهو عند البعض واجب!).

في كل الموقفين احتجاجات فقهية ممكنة المناقشة، لكن يجب الاعتراف بأن التشدد في مثل هذه المسائل له خطورة أكبر بكثير من التيسير، وريثما تحلٌّ المسألة فقهياً يجب التعامل بكثير من التيسير والتلطف، إذ انشداد الناس إلى هذه اللعبة (وفي هذه الأيام خصوصاً) إذا ما تم الأخذ بالموقف المانع دون حكمة واعتبار للموقف الآخر سوف يشكل انطباعاً لديهم في "تحريم" الطيبات دون مراعاة لهذا السحر الذي تشيعه لعبة كرة القدم اليوم.

وحتى لو ثبت عدم الجواز، فثمة لدى الحنفية ما يعرف بقاعدة "عموم البلوى" وهي تعني دخول بعض الأفعال تحت دائرة العفو إذا شاعت إلى درجة يصبح من العسير تجنبها، ريثما يتم التمهيد لذلك لإيجاد الظروف المناسبة، وخصوصاً الآن هناك كوارث تجتاح العالم الإسلامي في أفغانستان وفلسطين، وإحباطات إلى حدّ الانفجار في كل مكان، فمن غير المعقول أن يتم حرمان هذه الشعوب من بعض التَّرويح، ولن يكون ذلك بالطبع على حساب نسيانهم لقضيتهم.

 

موقف ثقافي: التغريب

بعيداً عن السياسي والفقهي، قد يجد البعض أن "كرة القدم" التي ولدت في إنكلترة أي في الغرب الأوروبي، وتعميمها على العالم هو نوع من تعميم الثقافة الغربية على العالم، فكل الألعاب التي توجد في المجتمعات تحمل طابعها الثقافي. وفي حين، يشكل السباق (الخيل وغيره) في الثقافة الإسلامية أساس الألعاب التي يشترك فيها كل المسلمين، والتي تستمد من أصل عقدي هو الاستخلاف وإقامته بـ "التسابق على الخيرات" يقوم اللعب في "كرة القدم" على أساس الاستعمار والمنطق الإمبريالي العسكري، فالمباراة تكون على شكل هجومات ودفاعات وتسديد ضربات وتحقيق أهداف، وهو أمرٌ يشير إلى العقلية الغربية الاستعمارية، وشيوعها يساعد في شيوع روح العنف، ويمكن الاستدلال لذلك بأحداث العنف التي تسود المشجعين وخصوصاً في إنكلترة بلد المنشأ!

في الواقع أجد هذه الفكرة فيها بعض المصداقية، لكنها أيضاً تهمل إمكانية أخرى لقراءة هذه اللعبة، أعني يمكن قراءة لعبة "كرة القدم" على أنها صورة التدافع الإنساني، وأن وجود "حكم" وقوانين مرعية يحول دون تحول هذا التدافع (الذي يعترف به الإسلام كأساس لعمارة الأرض واستخلافها) إلى صراع وعنف، ولذلك يمكن أن تلخص "لعبة كرة القدم" مسيرة الشعوب الإنسانية على وجه الأرض!

لقد أعادت حمى كأس العالم السؤال إلى الواجهة مرّة أخرى عن موقف الثقافة الإسلامية، بالرغم من أن شعوبها لا تستطيع ـ مثل بقية شعوب العالم ـ مقاومة الإغراء الملتهب لمباريات كأس العالم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply