بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إلى كل مسلم ومسلمة في بقاع الأرض... إلى كل إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب ويسعى في صلاح دنياه وأخراه... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يقول الله -تبارك وتعالى- في محكم التنزيل: وَعدَ اللَّهِ لَا يُخلِفُ اللَّهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ الروم 6-7
قال ابن كثير في تفسيره: أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة. قال الحسن البصري: والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله -تعالى-: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال أهـ
ثم يقول الله-تبارك وتعالى-: أَوَلَم يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ, مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِم لَكَافِرُونَ.
وفي هذه الآية تنبيه واضح للإنسان أن يتأمل في المقصود من خلقه، والمطلوب من حياته، وأن ينعم النظر في ما يجب عليه من استعداد للقاء الله -تبارك وتعالى- وذلك بعمارة الدنيا بالخير والأمور النافعة والأقوال والأفعال المصلحة.
ويقول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ رواه البخاري وبوب عليه بقوله: لا عيش إلا عيش الآخرة.
وقال ابن بطال في شرح الحديث: مَعنَى الحَدِيث أَنَّ المَرء لَا يَكُون فَارِغًا حَتَّى يَكُون مَكفِيًّا صَحِيح البَدَن فَمَن حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَليَحرِص عَلَى أَن لَا يَغبِن بِأَن يَترُك شُكر اللَّه عَلَى مَا أَنعَمَ بِهِ عَلَيهِ، وَمِن شُكره اِمتِثَال أَوَامِره وَاجتِنَاب نَوَاهِيه، فَمَن فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ المَغبُون
وَقَالَ اِبن الجَوزِيّ: قَد يَكُون الإِنسَان صَحِيحًا وَلَا يَكُون مُتَفَرِّغًا لِشُغلِهِ بِالمَعَاشِ، وَقَد يَكُون مُستَغنِيًا وَلَا يَكُون صَحِيحًا، فَإِذَا اِجتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيهِ الكَسَل عَن الطَّاعَة فَهُوَ المَغبُون، وَتَمَام ذَلِكَ أَنَّ الدٌّنيَا مَزرَعَة الآخِرَة، وَفِيهَا التِّجَارَة الَّتِي يَظهَر رِبحهَا فِي الآخِرَة، فَمَن اِستَعمَلَ فَرَاغه وَصِحَّته فِي طَاعَة اللَّه فَهُوَ المَغبُوط، وَمَن اِستَعمَلَهُمَا فِي مَعصِيَة اللَّه فَهُوَ المَغبُون، لِأَنَّ الفَرَاغ يَعقُبهُ الشٌّغل وَالصِّحَّة يَعقُبهَا السَّقَم، وَلَو لَم يَكُن إِلَّا الهَرَم كَمَا قِيلَ: يَسُرّ الفَتَى طُول السَّلَامَة وَالبَقَا فَكَيف تَرَى طُول السَّلَامَة يَفعَل يَرُدّ الفَتَى بَعد اِعتِدَال وَصِحَّة يَنُوء إِذَا رَامَ القِيَام وَيُحمَل أهـ
في الأيام المقبلة سيتابع العالم كله أحداث مسابقة كأس كرة القدم العالمية التي تنظمها دول العالم مجتمعة، حيث أضحى مهرجانا ضخما تَتَداعى إليه كل طبقات المجمتع ومؤسساته وهيئاته، وتُنفق فيه الميزانيات الضخمة، وتُستهلك فيه موارد هائلة، وذلك كله من أجل هدف الترفيه على البشرية!
وأمام هذا المشهد العالمي (مسابقات كأس العالم) يجب على كل عاقل أن يتنبه لما يلي:
1- الترفيه عن النفس أمر جاءت به الشرائع، وقد أجازه الإسلام، لكن وضع له ضواط وشروط حتى لا يخرج عن هدفه وشرطه ومساره.. فهدف الترفيه هو ضبط مزاج الإنسان وتهيئته للعمل الجاد، وشرطه ألا يحتوي أي مخالفات شرعية تعود عليه بالضرر والإفساد، ومساره أن يكون في السياق الحضاري المناسب للإنسان وليس عاملا من عوامل الهدم.
2- البشرية تحتاج إلى انقلاب في معايير الترفيه والرفاهية، ذلك أن الحضارة الغربية ساهمت بشكل مباشر في صياغة المعايير المتطرفة للترفية والرفاهية، فأصبحت الكثير من المحرمات والملهيات الضارة جزءا من الرفاهية التي لا يستطيع أن تتخلى عنها البشرية، مع أن البشرية كانت تنعم في رخاء وطمأنينة بال قبل تلك الترفيهات المحرمة، أليست الحضارة الغربية هي التي جعلت الأفلام الجنسية جزءا من الرفاهية التي تقوم عليها حياة كثير من شرائح الشباب واللاهين؟؟؟ وأليست مجتمعاتهم تسعى وتعين على هذا النوع من الرفاهية؟؟؟ إن الانقلاب المطلوب في معايير الرفاهية يجب أن يأخذ في الاعتبار المثل والأخلاق الدينية التي جاءت بها كل الشرائع وهو العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى (أي القيام بالحقوق والواجبات تجاه المجتمع) وهو الذي نص عليه الإسلام وصرح به في محكم التنزيل حيث قال -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ. النحل16
3- إن الترفيه الذي يقود البشرية إلى خسائر مادية وروحانية يجب أن يُحارب ويُمنع.. فمسابقات كأس العالم صارت مهرجانا للإباحية بين الشباب والفتيات، كما أنه صار مناسبة للمقامرين في كل أنحاء العالم، وفوق ذلك أصبح ذا دور فعال في إلهاء طلبة العلم في الجامعات والمدارس عن أداء دورهم المطلوب، ولو أخذنا في تَعداد الأضرار الناجمة عن هذه المسابقة من النواحي الاقتصادية لبان لنا خطورة هذه المسابقة على مستقبل الحضارة الإنسانية.
4- إن الترفيه الذي يجعل الإنسان متناقضا في مبادئه وقيمه ومُثُله لا بد أن يكون ترفيها ضارا مفسدا، ويستحق المحو والإلغاء. فمسابقات كأس العالم لها دور خطير في التمزق الأسري، والاضطرابات السلوكية عند كثير من الأفراد من كل الأعمار، كما أن لها دور مؤثر في تغير النمط السلوكي عند كثير من الناس عبر تغير عاداتهم وأخلاقهم وتقصيرهم في أداء واجباتهم ومهمات حياتهم الضرورية.
5- مسابقات كأس العالم تؤثر بصورة مباشرة في الإنفاق اليومي للأسرة المتفاعلة معها، وهذا بدوره له أثره المباشرة في اقتصاد الدولة، ولا يمكن تحت أي عذر تبرير إنفاق عشرات الآلاف من الملايين على مستوى العالم في هذه المسابقات الكروية في حين تعاني البشرية من مجاعات ومشكلات تودي بحياة المئات والآلاف.
6- والأهم من ذلك كله فإن مسابقات كأس العالم لها دور ضار في علاقة الإنسان بربه، فانصراف النفس واهتمامها بالسفاسف وإقبالها على اللهو بالكلية وتعلق الآمال بنتائج الدورة الكروية وحصول الهم والغم عند حصول خسارة فريق ما أو الفرح الزائد عند فوز فريق ما وترك الصلاة وإهمال فعل الخيرات وأداء الواجبات الشرعية يصبح أمرا اعتياديا عند المتابع (بنهم) لمسابقات كأس العالم، وينتج عن ذلك التقصير خلل في التماسك الإيماني الوجداني مما قد يؤثر سلبا على المناعة النفسية للإنسان، فيكون أكثر عرضة للتقلبات العصبية والنفسية، وذلك كله بسبب التطرف في ممارسة الترفيه.
7- إزاء كل هذه المفاسد الدينية والدنيوية التي عرضناها سابقا يظهر لنا حجم المأساة التي تعيشها البشرية، ففي حين تعود كل المكاسب والأرباح المذكورة لطائفة محددة من بني البشر، إلا أن البشرية كلها هي التي ستلعق دماء جراحها ولن يساعدها أحد في تلافي الخسائر الهائلة التي حصلت لها، وهذا يستدعي منا يقظة سريعة لهذه المأساة التي تحيط بالبشرية وذلك عبر حلول عملية مختصرة نعرضها كالآتي:
- مقاطعة كأس كرة العالم كتعبير شعبي عالمي يعلن رفضه للمخطط الذي يهدف إلى تدمير الفرد والأسرة والمجتمع.
- استغلال الأوقات في تأكيد التماسك الأسري وإيجاد الحلول العملية لصرف الأسرة عن الاهتمام بهذه بمسابقات كأس العام، ويكون ذلك متزامنا مع إيجاد البدائل للترفيه المباح المفيد.
- تنظيم حملة لدعوة الشباب والفتيات نحو إعادة برمجة حياتهم وفق منظومة من المقاصد والأهداف المفيدة، وصرفهم عن إنفاق أوقاتهم ومدخراتهم في الملاهي المفسدة ومنها مسابقات كأس العالم.
إن ما كتبناه آنفا ليس إلا محاولة لتلافي بعض الخطر الذي يحيط بمجتمعاتنا، وتنبيه مباشر لبعض المخططات التي تحاك من أجل تدمير الأسرة في أمتنا، إن حربا كمثل هذه الحرب الرياضية في كأس العالم لهي أشد فتكا من الحروب العسكرية التي تحتل الأراضي، لأن حرب كأس العالم غزو ثقافي يحتل القلوب والعقول، ويهيمن على الرغبات والنفوس، ويأسر حياة الأفراد والأسرة بأيسر وسيلة، وما من طريقة تجدي في دفع هذا العدوان إلا بمقاطعته وإفساد خططه..
والله الهادي إلى سواء السبيل....
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد